النسيان يؤدى أدواره الهائلة الخفية دون أن نشعر بتنقل هذه الأدوار من عمر وطور إلى غيرها من الأعمار والـ أطوار إلى نهاية الأجل كيما يستمر بقاء الجنس بدوام ذلك التنقل فى الأعمار والأطوار والأجيال.. فحياة البشر فى اليقظة دائمًا بين انتباه وغفلة وتذكر ونسيان، وإن كان معظمهم يتجاهل هذا الواقع الذى ليس منه بد.. وهو لا يخضع لحركة عامة مشتركة دائمة زمانًا أو مكانًا لوجود ذات منفردة مغايرة فى كل آدمى طليقًا كان أو غير طليق.. هذه الذات ليست جزءًا ولا مركبًا ولا خليطًا ولا عنصرًا ولا طاقة ولا قوة. وكثيرًا ما نزدرى النسيان ويغيب أمره على من يشتهر به بيننا.. لأننا نتصور أنه يندر فى الآدمى السليم.. والحال أن النسيان ـ كما قلنا من قبل ـ عنصر أساسى ملازم لكل حى لا يمكن أن يعيش بدونه، وهو لا يلفت الأنظار إليه إلاّ عندما يتجاوز مألوفه لدى معظمنا. ومن منا الآن وقبل الآن ـ لم ينس تفاصيل ماضيه طفولةً ومراهقةً ونضارة شباب وحلاوة مسرات وأحزان أمراض وأموات ومتاعب أشغال وأسر واختفاء صداقات وعداوات وظروف علاقات ورحلات وتكرار انتقالات؟.. والعجيب أننا برغم تراكم النسيان علينا ـ نتجاهل دور وقيمة الكتب والمكتبات وجدوى الاحتفاظ بالرسائل والمطبوعات والصحف تحسبًا لتذكير ناسينا، معرضين مشيحين عن أننا دائمًا وبلا استثناء عرضة لقدر من النسيان يحوجنا إلى المراجعة وإيقاظ الذاكرة !
ولأن النسيان ليس اختفاء ما كانت الذاكرة قد حفظته وقتًا طال أو قصر من إحساس ووعى وفكر فطن ومعرفة ـ فإنه لا علاقة له بما يسميه الآدميون بالغيب.. وهو عام بينهم يغطى ويغشى دائمًا حياة الأحياء بلا تفريق.. كذلك لا علاقة للنسيان بالمجاهيل التى يصطلح عليها البشر فى أزمنتهم وأمكنتهم وهم لا يرمون بوصف الجهل إلاَّ من يجهل ما يعرفه أوساط الناس فى مجتمعهم !
وهذا النوع من الجهل نقيض للمعارف السائدة بين الكثرة أو عند القلة الحاكمة أو المترفعة ـ فى المكان والعصر !
هذا وقد ينقلب بعض ما كان يعتبر جهالة أو سخافة فى عصر ـ إلى معرفة وعلم فى عصر تالٍ.. يحدث ذلك عندما يتضح لجماعة أو جماعات أنه أعمق فى البصيرة والفهم والإدراك، وأكثر بالتالى رقيًا وتطورًا من سابقيه !
وحضارات البشر أساسًا ـ ما هى إلاّ قفزات.. تحدث هنا أو هناك كلما تجمع وتركز فى جماعة تيار قوى له قدر كافٍ مرموق من اليقظة والحماس والاقتناع والإقناع والعزيمة والإصرار على تغيير ما هو موجود باهت، والانتقال منه إلى جديد أكثر إقدامًا وشجاعة وحركة وثقة فى المستقبل وتأكدًا من تحقيق ما عقد عليه آماله من الرخاء والقوة !
وهى قفزات تستند إلى استعدادات تقوى أحيانًا لدى فريق من البشر فتحمل دائمًا مع المزايا السالفة الذكر عيوبًا ظاهرة أو خفية تؤدى إلى إخفاقات وأزمات.. هذه القفزات تكررت وتتكرر طالما بقى فى الجنس البشرى عافية بدنية وروحية مدخرة قوية تدفع البشر إلى تكرار ذلك القفز الخصب.
وفـى اجتماع تلك اليقظـة النسبية والنسيان أو اجتماع ذلك النسيان مع تلك اليقظة ـ نرجو ألا نفقدها كليةً وجميعًا فنفقد ما يصحبها بين آن وآخر من الشعور غير العادى الملىء تفاؤلاً بالانتعاش والحيوية والجسارة والثقة فى الاستمرار والرقى.. ويبدو أن من أخطر ما تعرض ويتعرض له البشر من الغرور المزمن والملازم ـ هو تصورهم أنهم أفضل ما فى الكون كله من الأحياء.. لأنهم لم يجدوا غيرهم واعين عاقلين عارفين على هذه الأرض !.. وهو تصور قد يكون جائزًا فى الماضى حينما كانت الأرض فى نظر البشر كافة تقابل السماء أو السماوات فى تكوين الكون، ولكنه لم يعد كذلك فى الحاضر.. فليس من شك أن ارتياد الفضاء، وانفتاح الأرض على الكون بشموسه وكواكبه ونجومه، والإطلال على عجائب ما فى هذا الكون الفسيح، واكتشاف أن الأرض ليست هى مركز الكون ـ ولا الشمس، ولا مجرة درب التبانة، والتى استبان أنها بدورها مجرد مجرة من بلايين المجرات التى تحفل كل منها ببلايين الشموس والأقمار والكواكب والنجوم.. لا شك أن هذه الكشوف الهائلة قد أكدت للإنسان أنه بالفعل لم يؤت من العلم إلاّ قليلا (الإسراء 85).
[email protected] www. ragai2009.com