كثرتنا لا تحتضن ماضيها إلا خافتا فى الغالب الأغلب.. يزداد خفوتا واختلاطـا مع مرور الأيام وبعدها.. حشوه أحاديث وروايات وحكايات وأوهام وخرافات صعد كثير منها إلى مقام المصدقات والمعتقدات لدينا !.. فكثرتنا الكاثرة لا تكتتب بشىء فى تقدمنا اللهم إلا بتكلفة هذا التقدم الذى يتوقف حتما إذا انقطعت الكثرة الكاثرة عن تقديمها.. وهو ما لم يحصـل عبـر الدهـور والأحقاب.. لأن هذه الكثرة لا تفطن إلى أنها هى الممول الرئيسى لما نسمية الدولة والإدارة والحكم والمرافق والمعاهد والمدارس والمعامل والمصانع ومعالم العلم والفن والأديان والآداب. يضاف إلى ذلك أن وجود كثرتنا الكاثرة الضخم الهائل كمتقبل وموزع وناشر غير دقيق ولا يبالى بصحة أو بطلان ما يردده، ولا يبالى بعقابيل صيحاته وقلقه وأفعاله وردود أفعاله، يوازيه أنه لا يفطن إلى أن سعى الكثرة الكاثرة الضرورى لبقائها هى وعملها الملىء بالخطأ والغفلة وقصر النظر، هو قوام كل شىء ذى قيمة وخطر وتأثير فى مجتمعاتنا وتاريخ مجتمعاتنا وحضاراتنا فى الماضى والحاضر والمستقبل !
وليس من حق أحد مهما كان ـ فردًا أو جماعة ـ الزهو بالفعل أو العطاء أو الدهاء أو العلم أو الفن أو الأدب أو التدين أو الأخلاق.. لأن كل ذلك يسقط ويبطل متى زال عن المجتمع كثرته الكاثرة. وفى هذا ما يقرب عالم البشر من عوالم الأمواج والطاقات والقوى، ولكن هل يأتى يوم تفطن فيه الكثرة إلى أن حياة القلة العارفة الفاهمة فى يدها هى ؟!.. وهل يحتاج هذا إلى تطور فهم الكثرة وتقدمه بحيث تستطيع قيادة المجتمع دون حاجة إلى تدخل تلك القلة الفاهمة العارفة، أم أن مثل ذلك التطور والتقدم ستضيق بسببه مسافة الفروق بين العامة والخاصة، ويصبح التداخل والتمازج بين شقى الجماعة سهلا هينًا غير مصحوب بالشعور بالسيادة أو الأفضلية الذى تشتهيه الكثرة الآن وتحرص القلة على الانفراد به!
ربما صار العالم المتقدم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يسير حثيثا فى هذا الطريق وإن باتت تلمع فى آفاقه الآن ملوك المال الذين جمعوه بأيديهم ويحرصون على الاحتفاظ بسيطرتهم عليه وتميزهم به على الجميع لقوة تأثيره المادى والاجتماعى والسياسى.. وهو تمسك بماضى الإنسانية الطويل الذى يعود إليه البشر كلما وجدوا فرصة مواتية.. لأنهم لم يصادفوا بعد ما هو أفضل وأكثر إغراءً وإرضاءً للنفس!
والواقع أننا فى معظم الأحوال لا نرجع إلا لماضٍ معين أو أكثر سابق فى اختيار أطايبنا وملاذنا من طعام وشراب ومسكن وجنس وامتثال لشعور عنيف بقوة الذات وسطوتها.. فمحاكاة الأقوياء والأثرياء لأمثالهم من الماضين محاكاة مشهودة لسهولتها، ولأن القوة والثراء لا يأتيان فى الغالب نقاطا وتدريجيا بل يأتيان سريعين متتاليين لا يتيحان فرصة واسعة للتأمل والتفكير العميق الشخصى فى التفاصيل.. فارتباط الحاضر بالسابق من هذه الناحية يكاد يكون فرديا وجماعيا ـ لا مفر منه.. وعلى الذين يريدون إزالة هذا الواقع الذى كاد أن يكون سليقة، أن يتضامنوا ويتكاتفوا فـى توفيـر نمـاذج متطورة ـ تعديلا أو إنشاءً ـ تكـون لائقـة متناسقة مع مجتمع متقـدم متطور فـى معظم أجزائه قابلة لأن يحتذيها العامة بلا صعوبـة ولا يأباها الخاصة لأولادهم وذوى قرباهم!
ونحن جميعًا نولد وكل شىء فينا أو معنا مشتبك اشتباكا يكاد يكون تاما بالذات التى لا تميز شيئا سواها، فكل شىء عندئذ يكون منها وإليها ومن أجلها.. حتى وجود الأمم ومن يقوم مقامها.. فهذه وتلك خادمة لازمة ملازمة للجميع ومن أجل الصغير لخدمة ذاته التى لا يرى سواها، ولكن مع مرور الأيام يثبت التمييز لديه بطيئا ويخف ذلك الاشتباك بالذات، ويبدو للآدمى ـ بوضوح يتزايد ـ أن إلى جوار ذاته ذوات أخرى لها حقها فى الالتفات، وأننا جئنا لعالم يسع الكثيرين.. وأن على كل منا أن يعيش بينه وفيه ومعه، بقدر الاستطاعة وفى الحدود الممكنة عرفا أو عادة على وفق سنن الزمان والمكان.. وهذا لأن بدايتنا بتميز الذات وحدها لدى الصغير الذى تكون الذات لديه مركزة حول نفسها.. تعرف « الأنا » ولا تعرف غيرها معرفة تماثل وتشابه واشتراك فى الحياة والكون.. ومن هنا كانت المحاسن التى يشعر الصغير بها مركزة على ذاته، ثم يأخذ تركيزها هذا فى الانفراج والاتساع.. ويبدو هذا فى تطور علاقته بالأم وبمن هى فى مقام الأم وبالإخوة.. وهكذا يزداد الانفراج والاتساع مادام الإنسان حيا لا يتوقف إلا لعلة مرضية أو لسوء تربية!
www. ragai2009.com