لم يعد الآدميون يستقبحون أو يجدون أى غضاضة فى أن تتحول الحيازة إلى استيلاء، ولا فى أن يتحول الاستيلاء على المال بغير حق بمرور الزمن إلى ملكية.. لأن الأساس الأصلى للملكية فى أذهانهم لا يزال للغلبة التى يدل عليها طول مدة وجود الشىء فى وضع يد حائزه الفعلى وعدم مقاومته فى هذه الغلبة التى انتقلت من الأفراد إلى الجماعات، ومن الجماعات إلى الحكومات، ومنها إلى الدول التى صار كبيرها يستبيح صغيرها ويعتبر الغلبة حقًا لا يقاوم للأقوياء!
هذا المثال، يردنا إلى الظاهرة العامة التى بها بدأنا.. نضوب الإحساس بالعدل والاقتناع بقيمته المطلقة، سواء لدى الأفراد أو الجماعات أو الحكومات أو الدول.. هذه الآفة آفة ظاهرة صارت قاسمًا مشتركًا فى الكثير من التصرفات والأفعال، والخلافات والصراعات، ولم يعد باستطاعة وسيلة دنيوية أن ترد الناس الذين انفلت عيارهم إلى القصد والاعتدال!
وسط هذه العتامة المظلمة، تغدو واحة العدل الإسلامية هى الخيط والحبل، وهى الأمل والغاية جميعًا.. إقامة العدل فى الإسلام، ليست فضيلة مطلوبة وكفى، وإنما هى إقامة للحياة ذاتها على أسس آمنة، منصفة وحكيمة، تستقيم عليها حياة الناس فى طمأنينة وأمان وسلام!
فى الدوحـة الإسلامية، يعرف المسلم أن « العدل » من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته.. ويعرف أن عدله سبحانه وتعالى مطلق، وعدلنا ـ إن كان ـ نسبى !.. بالعدل أنزل سبحانه كتبه ورسله وشريعته لإقامة الحق والقسط.. « لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد 25).. العدل ركن ركين من شريعة الإسلام، ودعامة رسالته إلى العالميـن، وبه أمر تبارك وتعالى نبيه المصطفـى صلى الله عليه وسلم: «وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ» (الشورى 15).. وفى الحديث القدسى: «ياعبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرمًا.. فلا تظالموا».. لا يحول شىء مهما كان فى وجوب العدل.. ففى القرآن المجيد: «يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (المائدة 8).
جبل الناس على كراهة الحق والعدل، فينبه القرآن المجيد إلى ذلك: «لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ » (الزخرف 78).. وفى سورة «المؤمنون» : «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ» (المؤمنون 70).. أرسل سبحانه ـ رسوله المصطفى ليهدى الناس بالحق إلى الحق: «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ» (الصف 9).. يبلغهم رسالة ربه بأنه عز وجل يأمر بالعدل والإحسان: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ » (النحل 90).. المسلم مأمور فى شريعته السمحة بالعدل والقسط والإنصاف، ولو على نفسه.. فى الحديث الشريف : « لو أنصف المتقاضى لاستراح القاضى».. وفى الذكر الحكيم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ » (النساء 135).
من آفات الآدمى أن يخبو فيه الالتفات إلى الحق والصواب، وقد يطمع فى الإفلات من الجزاء.. فيقول له القرآن الحكيم: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء » (42، 43).. هؤلاء يتوعدهم القرآن المجيد، ويذكرهم: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا» (الفرقان 27).. وفى سورة غافر « يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» (غافر52).
من جمال وحكمة شرعة القرآن، أن جعلت العدل عملاً وغاية، ومن « عزم الأمور » الذى تجمل فيه سجايا وأخلاق وشمائل الإسلام.. هو رسالة الأنبياء، وواجب الحكام والولاة، وأمانة فى عنق الرعاة.. يقول عز من قائل: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ» (النساء 58).
إن الله تبارك وتعالى، واسمه العدل، قد جعل إقامة العدل قانونًا عامًا لصلاح الحياة والأحياء.. من يتتبع منظومة العدل فى الإسلام يجدها شاملة راعية لصوره فى كل مجال، كافيةً به دفع كل أسباب وأشكال الظلم، والتضييق عليه، وتجفيف منابعه !.. فى صدق التعامل وشجب الغش والتطفيف: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» (الرحمن 9).. «وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ » (المطففين 1 ـ 3).. مال اليتيم أمانة لا تمس : « وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (الأنعام 152).. والوفاء بالعهد من خصال الإيمان وصفات المؤمنين الذين هم: «لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ» (المؤمنون 8).. مأمورون بذلك فى القرآن المجيد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» (المائدة 1).. « وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً » (الإسراء34).
حيثما نظر الناظر فى دوحة الإسلام، يجد سجية العدل حاضرة واضحة، ليست محض حلية أو شعار، وإنما غاية مرعية أحاطها الإسلام بعناية شاملة، تدرأ عن الإنسان نوازع الشر، وتدعوه محبًا إلى الخير والتزام مبادئ الحق والعدل والإنصاف.
www. ragai2009.com