قريتنا اليوم من حيث العدد أكثر بكثير مما تسع الأرض من جهة القدرة لدى الجميع على كسب العيش اللائق الكافى المستقيم المناسب للإنسان.. وبات البشر لا يبالون بالتفرقة فى الكسب بين الحق والباطل، والسليم والغاش، والحلال والحرام.. وساقهم عدم المبالاة بهذه الفروق، إلى المزيد من التكالب بكل حيلة ووسيلة يجدها أو يصادفها الآدمى فى طريقه.. يظنها قد تنفعه فى تحقيق مراده من دنيا الجشع والأطماع التى يقبل معظم الخلق على الاغتراف منها أغنياء كانوا أو فقراء، سرًّا أو علانيةّ!. لكن تاريخ البشرية لا يسمح فيما يبدو للمتأمل بالرجوع إلى ماضٍ سابق شامل يكذب سيرة حياة كل آدمى منذ وجد حتى الآن.. إذ أغلبها الغالب ليس انخفاضًا بل ارتفاعًا وفهمًا لا غباءً، ومعرفة لا جهلاً.. والخالق جل وعلا يزيد القابل للزيادة بما قد لا نعلمه نحن الغارقين الآن فى مخاوفنا.. إذ كل منا يستحيل عليه أن يعرف إلاَّ إجمالاً وعمومًا ملايين زملائه الأحياء مثله.. فآراؤنا وأحكامنا فى كل زمان ومكان دائمًا أضيق أو أوسع مما نعرفه فعلاً.. ولذلك لا نكف قط فى أى زمان عن التعثر والتخبط والوهم والمبالغات والخرافات، ولا نفارق القليل أو الكثير من الأمانى والمخاوف والسعة والضيق والرواج والكساد والأمن والاضطراب والسلام والحرب.. وخلال ذلك الذى لا يكف أو يهدأ تداولنا ونتداول وسنتداول ما عشنا وعاش من بعدنا ـــ إن لم يتغير ما ألفناه ـــ قليل الصحيح المفيد النافع وكثير الزائف الدائم الترديد فى الأحاديث والأخبار والإذاعات والاجتماعات والمجالس والمؤتمرات.. تتشدق بها الألسن وتدخل فى قلوب وعقول الخلق وتمتلئ بها الكتب والتآليف والنشرات والقرارات والاتفاقات والمعاهدات.. فالآدميون منذ خلقوا حتى الآن، يعيشون حياة معظمها خيال ومجازفة ووهم تنتهى دائمًا إلى خيبة المسعى، اللهم إلاَّ فى نادر النادر من إصرار دائم لا يتزعزع على الإخلاص فى الإيمان، إخلاصاً لا يزعزعه مزعزع كائنًا من كان.. وكم توهم ويتوهم وسيتوهم الآدمى تحقيق أضغاث الأمانى مدفوعًا بشهوته وخياله ومناه ـ بالمال أو القوة أو القدرة أو السلطة أو السيادة أو بهذه جميعًا ـ معطيًا ظهره للدين والقيم والأخلاق، متعلقًا بكثير من التفاهات، معظمًا لها، مشيدًا بها ما راح وطاح وأخفته من الوجود الرياح ونسيته المطامع والمدامع معًا !
ولم يتطلع أى آدمى فى أى وقت مضى إلى اليوم والغد ــ فى علمه وحلمه ــ لأقرب وأكثر من مشتهيات حواسه وما يبدو له منها سائغًا وطيبًا وشهيًا ينجرف إليها دون بحث أو فحص.. فثلاثة أرباع رغائبه إلى أن يفارق دنياه، يدفعه إليها ميل غريزى عاطفى قلمًّا يمر عليه أو يستشار فيه عقله أو يستأذن رشده.. فهل يمكن للأغلبية الغالبة من البشر أن تقوى على مقاومة أو إضعاف هذا الميل الغريزى العاطفى ــ لتأخذ دورها الجاد الحاد فى الفضاء الهائل ؟.. هذا السؤال قد يبدو غريبا الآن، لكنه إن زاد واطرد سعينا المثمر فى الفضاء الواسع، وانتشرت آثاره وفوائده فى مجتمعاتنا، قد يتغير منا من لا يتغير الآن وما لا يتغير، وتكبر فى أنظارنا معالم عالمنا ومعها عاداتنا وقدراتنا.. وتتغير كيفية رؤيتنا وأحكامنا على الأشياء والأشخاص وموازين وطرائق أحكامنا على جهود إنسانيتنا والتفاتنا إليها.. وربما يشبه هذا الانتقال فى قفزه الجاد الحاد إن حدث فعلاً زمنًا ومكانًا ـ انتقال بشريتنا من الهمجية إلى الحضارة القديمة فى تاريخنا، وعندئذ يمكن إن أذن القدر أن يتخلص البشر نهائيًّا عامتهم وخاصتهم من بقايا الهمجية مع الأنانية الناشبة فينا !
■ ■ ■
قد لا نغالى إذا قلنا إن كل صور المغالاة بقايا همجية غير متفقة مع الإنسانية.. خبيثة العواقب فى النهاية على أطرافها ونسلهم والمساير لهم !
ومعرفة البشر بالكون كانت ضيقة جدًّا فى البداية.. سايرت أيامهم ولياليهم، ولم تجاوز حياة البشر على الأرض فى تقديرهم ــ أربعة أو خمسة آلاف عام حتى آخر القرن السابع عشر.. ثم التفتت دراستهم إلى القديم والأقدم من اليابس والمائع وأعماقه وحاضره وسابقه وعلاقات الأرض بالشمس مع ما عرف إذ ذاك من كواكبها صغيرة وكبيرة.. ولم تكن صورة الكون فى نظرهم إذ ذاك بهذا الحجم الكبير الهائل الذى أصبحنا نعرفه اليوم، بين هوله وضآلة الأرض.. فنحن اليوم نجرى بعنفٍ شديد ملىء بالخرافات والحماقات والخلافات والزعامات والأنانيات ــ وراء عالم أدركنا متأخرين جدًّا جدًّا أنه عالم هائل هائل لا قبل لنا بمعرفة حجمه ولا مدة وجوده، وأن أرضنا ليست إلا ذرة فيه لا نعرف بيقين متى وكيف وجدت ووجدت بها المخلوقات الحية باختلاف أجناسها وأنواعها اختلافًا لا أول له ولا آخر.. دائم التوقيت يوجد ويزول، ويزول ليوجد ما شاء الخالق جل وعلا.
www. ragai2009.com [email protected]