تتجلى آدمية كل واحد منا، فى موالاته لحياته ما بقى متمسكا بها كحى خلالها.. هذا التمسك هو كل ما يستطيع أن يعبر عنه الحى بصدق الآدمى ويختفى مع الميت حين يغادر هذه الدنيا تماما. فثمة امتزاج وتداخل من قديم الزمان فى رؤى الأحياء بين الحلم والواقع.. أما تجميد الأجساد فى عصرنا ـ لصونها من التآكل ـ احتمالا لاستعادة الحياة، فهو توجه غريب شاذ من حى قريب من الموت جداً، ويقابله على العكس طقوس بحرق الأجساد الآدمية بعد ذهاب الحياة الدنيوية عند بعض المعتقدات حتى الآن!
وكثرة الفروق فى سلوك الآدمى بين مختلف الأوضاع والمناسبات والأحوال التى يتبادلها وينتقل منها، تندمج عادة بعضها فى بعض.. فلا يميزها بدقة إلى أن يفارق دنياه.. ولذلك بقيت عاداتنا إلى اليوم حريصة على الأعياد والمواسم الدينية العامية والنذور والمزارات والولايات والقرابات والمقابر، إلى جانب دنيا كل منا التى هى شغله الشاغل المهم فى البيت والعمل والأخذ والعطاء والقدرة والعجز والماضى والحاضر والمستقبل.. هذا الانشغال الذى يصرف الآدمى عن الخالق عز وجل عن الآخرة وحسابها!
لا يريد الآدمى حتى الآن والغد، أن يتخلى عن تمسكه بدنياه بأقصى ما يستطيع.. لا يبالى بسواها فى أى وضع.. وفى ذات الوقت يحاول أن يبدى من آن إلى آخر، أنه يرفع أعلام التدين فى زيجة أو وفاة أو مشهد دينى.. لم يترك الدين كلية فى اعتقاده العامى.. وهذا التصور سائد منذ أجيال عديدة.. يتبادله الأبناء عن الآباء.. ويتخيلونه كافياً مغنياً لا يصادر ما اعتادت عليه الأغلبية من البشر التى كفاها تزيين المعابد والتردد عليها من آن لآخر إن أمكن، أو إقامة الاحتفالات العائلية فى المواسم والأعياد، أو تبادل التهانى فى مناسباتها.. فأهل الأديان من قرون طويلة قد اكتفوا لأديانهم بركن جانبى صغير محترم لها.. بل لعله يتناقص من آن لآخر خاصة فى زماننا هذا حيث زاد عموم الناس فى كل بقعة جرأةً واندفاعاً بل وتهوراً ضد كل ألوان التدين المعروفة!
فنحن منذ خلقنا نضيق فى الواقع من غموض وانبهام وتضارب واضطراب فهمنا كبشر.. وما يقابل ذلك فى كل منا ـ من خلط ووهن وشهوة وخوف وسخط وعنف وقسوة واستبداد.. ويبدو أن ذلك يرجع لكوننا لم نجد بعد ـ خلال ماضينا الطويل ـ من ينافسنا عليها.. واليوم يتمسك بعضنا بشىء من الجد برغم قلقنا الشديد على مستقبلنا، فى بقاع ما سميناها المعمورة زهواً.. إن ما نزعم أنها أرضنا، هى كلها ـ فى الواقع ـ قطعة تبعية ضئيلة من جملة أكبر وأصغر من قطع أخرى تبع لشمسنا التى هى نفسها إحدى الشموس الصغيرة فى مجرة كبيرة ليست وحدها فى هذا الكون.. هذا الكون الجسيم الهائل الذى زادت الآن معارفنا به بقدر ما أمكننا لنزداد إن ازداد فهمنا وفهم من بعدنا وتخلصنا بتمسكنا الشديد بالعقل وإنمائه المستمر من بقايا ماضينا الملىء بالعواطف والشهوات والمخاوف والأنانيات التى تجاوزت فعلا حدودها من مئات السنين ووصلت اليوم إلى نهايات يصعب الصبر عليها لكل عاقل حقيقى صادق يرى دنيانا الآن بحالتها العجيبة غير المعقولة واندفاعها المجنون!!
إننا نرى دنيانا الآن كعقلاء من زاوية الكون الواسع الفسيح فى أبواب أمل جديد لا أول له ولا آخر.. نتبارى فيه كل يوم بل كل ساعة.. يطرد وينمو فيه النمو والفهم والصحة دون انقطاع.. وتعيش البشرية أعمارا مستمرة متوالية ممتدة فسيحة تزداد سعة إلى ما شاء الله فى هذا الكون العظيم الذى بدأنا نفطن إليه ونتعلق به ونقوى ثقتنا فيه برغم ظلمة حاضرنا اليوم واضطرابه!
هذا ولكل الأحياء ومنها البشر حركات مستديمة احتمالية قصدية وغير قصدية، وليست يقينية موحدة ثابتة لا تتغير من البداية إلى النهاية.. ولذلك كانت الأفراد الحية تتغير نوعا ومقدارا وقوة وضعفاً فى كل خطوة من الزمن وكل مرحلة من كل جيل فى كل نفس كبيرة أو صغيرة.. لكننا وكل حى، نجمع ونجمل باستمرار تلك الاحتمالات فى مجاميع متتالية لم ولا نبالى بفروقها فى كل لحظة!.. وسبحان الذى خلق الموت الحياة، ويعلم السر وأخفى.
www. ragai2009.com