من تراب الطريق ( 1250 )

رجائى عطية

9:08 ص, الأثنين, 31 يناير 22

رجائى عطية

رجائى عطية

9:08 ص, الأثنين, 31 يناير 22

الابتلاء كما يكون بالنّقم قد يكون بالخيرات

اعتاد الناس أن يحسبوا البلاء على وجه واحد، هو الابتلاء أى الامتحان بالمحن والصعاب والنوائب والملمَّات، وأن يحسبوا أن كلَّ ابتلاء هو على شاكلة ما جرت به الآيات القرآنية الكريمة: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (البقرة 155 157).

ذلك أن تقلبات الأحداث سنة كونية، والإنسان معرض فى رحلة حياته للخطوب والشدائد والمخاوف.. فهذه طبيعة الحياة، وتلك سنَّة الله تعالى فى كونه، ولا تبديل لسنَّته. بيد أن هذا الابتلاء قد يكون بالشدائد والشرور والمحن، وقد يكون بالخيرات والمنح والنعم.

هذا الابتلاء ليس عن كراهة أو تعسير، بل قد يكون الابتلاء بالشدائد لأحب عباد الله إليه. وقد سئل النبى عليه الصلاة والسلام عن أشد الناس بلاءً واختبارًا، فقال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل..»، ويقول عليه الصلاة والسلام فى حديث آخر: «إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط».

فلم يكن ابتلاء الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام عقابًا له على ذنب أو معصية، وإنما أراد سبحانه أن يكشف فى دنيا الناس مقدار إيمانه بربه، وثقته فى عدله، وصبره على قضائه، وقوة ضراعته والتجائه إلى خالقه القادر وحده على رفع الضُّرِّ عنه. يقول تعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ» (الأنبياء 83، 84).

رسخ فى ذهن العارفين، أن الابتلاء سنَّة إلهية، بل واتخذه البعض علامة على الرضاء الإلهى عمن اختاره سبحانه لابتلائه.

نقل الرواة أن الإمام أحمد بن حنبل سئل يومًا:

ألم تصدك المحن عن الطريق؟!

قال: والله لولا المحن؛ لشككت فى الطريق؟!

إن الله لا يبتليك بشىءٍ إلَّا كان خيرًا لك.. وإن ظننت العكس..!

أرح قلبك.. فلولا البلاء لكان يوسف مدللاً فى حضن أبيه..

ولكنه مع البلاء صار عزيز مصر..!

ومن المنفى رجع موسى نبيًّا…!!!

ورجع من المهجر سيد الخلق فاتحًا..!!

* * *

ألمَّت الخطوب بالنبى المصطفى عليه السلام، وتعرض للإيذاء الشديد بالطائف، وسَخِرَ منه أصحاب الطول، وتجمع الغلمان والسفهاء فى طريقه يسبونه، وجعلوا يقذفونه بالأحجار، حتى دميت رجلاه وتخضبت نعلاه بالدماء. كلما أذلقته الأحجار قعد على الأرض فيأخذون بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى يرجمونه وهم يتضاحكون مستهزئين!

لم يستطع عليه الصلاة والسلام أن يستخلص نفسه منهم إلاَّ بمشقة بالغة، وطفق يدعو ربه وهو موجع مخضب بالدماء، بدعائه الشهير.. «اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلَّة حيلتى، وهوانى على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربى. إلى مَنْ تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى أو عدُوٍّ ملَّكته أمرى؟! إن لم يكن بك غضب علىَّ فلا أبالى!».

فى هذا الختام أفصح نبى البر والرحمة أن الابتلاء مقدور، وأن ما يخشاه أن يكون بالمولى عز وجل غضب عليه.

الابتلاء بالمنح والخيرات

ولا شك أن الابتلاء قد يكون أيضًا بالمنح والخيرات والنعم.. يتفاوت الناس فى استقباله تبعًا لإيمانهم وسجاياهم.. قد يستقبله البعض بالبطر والغرور والتباهى به، مثلما حصل من قارون فيما روته سورة القصص بالقرآن الكريم.. كان من قوم موسى فآتاه الله كنوزًا تنوء بحمل مفاتيحها العصبة من الرجال، ولكنه بغى وتجبر، فنصحه العقلاء من قومه بألاَّ يفرح بما آتاه الله، وليبتغِ به وجه الله والدار الآخرة، فيأخذ نصيبه من الدنيا ويحسن كما أحسن الله إليه، ولا يبغى فى الأرض فسادًا فإن الله تعالى لا يحب المفسدين.

بيد أن قارون أعماه الغرور والغطرسة، وجعل يقول لناصحيه إن ما أوتى إياه كان بفضله وجهده وقدرته، وأصبح فخرج على قومه مغترًّا مزهوًّا متباهيًا فى زينته، فخسف الله به وبداره الأرض ولم يجد لنفسه نصيرًا ولا سندًا.

* * *

قد يكون الخير فتنة، والفتن ابتلاء واختبار.. وفى ذلك يقول تعالى: «وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» (الأنبياء 35).. وكان نبى البر والرحمة يستعيذ بربه من «فتنة الغنى» ويقول فى دعائه: «وأعوذ بك من فتنة الغنى».

فالله تعالى كما يرحم ببلائه، فإنه يبتلى ويختبر بنعمائه. ليبلو عباده هل يشكرون أم يطغون بالنعماء والغنى. الاستغناء بالمال والوجاهة وغيرهما من النعم، يسلس إلى البطر والطغيان، يقول جل شأنه: «كَلاَّ إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى» (العلق 6، 7).

وهناك من يُبتلى بالخير، فيشكر ربه على ما آتاه. هذا الشكر ليس مجرد شكر باللسان، وإنما هو عرفان وامتنان بالقلب. وما دام صادقًا نابعًا من القلب فسوف يصادقه عمله، فلا يتجبر بما أوتى من خيرات، ولا يزهو ولا يغتر، ويدرك أن للمال الذى بيده وظيفة اجتماعية، يُبْتلى كيف نهض بها برًّا وعطاءً وإنفاقًا فى الخيرات، واتخاذها سبيلاً للإصلاح والعمار.

www. ragai2009.com

[email protected]