أصدر العقاد كتاب «فلاسفة الحكم فى العصر الحديث» سنة 1950، أصدرته دار المعارف فى سلسلة «اقرأ»، وهذا يعكس جانبًا مهمًّا من جوانب العقاد، هى حرصه على مبدأ مجانية الثقافة، وإتاحة كتبه بأسعار زهيدة ضمن ما كانت تصدره دار المعارف ودار الهلال اللتان خصهما بجانب كبير من إنتاجه، وقد أعيد طبع الكتاب أكثر من مرة، ونشر ببيروت ضمن المجلد / 14 بالمجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد.
ومع أن موضوع الكتاب «فلاسفة الحكم فى العصر الحديث» ويتحدث فيه عن «جورج سوريل» (1847/1922)، و«باريتو» (1848/1923)، و«جايتانو موسكا» (1858/ 1941)، و«روبرت ميشيل» (1876/1936)، و«جيمس برنهام» (1905/ 1987)، و«فردريك أوجست فون هاييك» (1899/1992)، و«جراهام دالاس» (1858/ 1932)، إلاَّ أن العقاد تحدث فى مقدمة ضافية عن جذور الفكر السياسى ومذاهب الحكم منذ العصور القديمة، فالفكر الإنسانى سلسلة مترابطة، وما صيغ فى القرن العشرين أو شاع خلاله، ما كان ليصاغ لولا ما تقدمه من حلقات الحكم القديم والفلاسفة الأولين بدءًا من أفلاطون وهيرودوت وأرسطو وشيشرون.. وما توالى من بعدهم حتى أطللنا على العصر الحديث.
تفلسف حكماء اليونان فى مسألة الحكم كما تفلسفوا فى سائر المسائل التى عرضت لعقل الإنسان فى الزمن القديم، وقد صارت لهم قُبَيْل فلسفة الحكم ملاحظات واقعية دونها هيرودوت قبل مولد أفلاطون يتحدث فيها عن «المساواة»، وربما لو امتد به الأجل لأضاف دليلاً جديدًا على فضيلة الحرية، وهى ارتقاء الفكر ونبوغ الفلاسفة الذين يلقون أنوارهم على المسألة بحذافيرها ويتناولون قواعد الحكم وحقوق المحكومين على وجوهها.
وكان أفلاطون يعظم شأن الدولة بالقياس إلى الحرية الفردية، فالقوانين لا توضع لتمكين الفرد من أن يفعل ما يشاء، ولكن لهدايته إلى أحسن ما يستطيع.
وقد نظر الفاشيون والاشتراكيون إلى أفلاطون كل من وجهة نظره، ففلسفته ترضى الفاشيين لأنه يكل الأمور إلى الولاة والزعماء، وترضى الاشتراكيين لأنه يحرم الملكية على الولاة ويسمح باشتراك الجمهور فى الملك الواحد ويجعل للنساء حق الحكم مع الرجال.
ولا شك فى ميل أفلاطون لحصر السلطان فى الأيدى القليلة وإعراضه عن إطلاق حقوق الحكم لجميع المحكومين، بيد أنه يخطئ التفسير من يستندون إلى ذلك فى تسويغ الاستبداد وقد يتعمدون تحويله عن معناه.
وأفلاطون يقسم الحكومات إلى ثلاثة أنواع : حكومة الفرد، وحكومة الأعيان، وحكومة الشعب أو الديمقراطية، ولكل منها آفتها وحسنتها، وخير ما تكفله الحكومة لجميع المواطنين هو المساواة فى الحرية.
أما أرسطو فإن كلامه عن المواطنين والحرية ينصرف إلى الأحرار دون الأرقاء، والتفرقة بين الحكومتين الصالحة والفاسدة هى عنده أصدق تفرقة قال بها الفلاسفة. وليس من رأيه أن الحكام «خير» الناس، فمعنى ذلك وصم من لا يتولون الحكم بأنهم أشرار، أو معناه أن أخيارًا قلائل هم الذين يستأثرون بالحكم.
وليس من رأى أرسطو أن الحكم حق للثورة، أو أن الكثرة تباشر الحكم بجميع آحادها فذلك محال حدوثه فى الواقع، بينما يرى أن رضاء الكثرة بالحكم هو الضمان لإخلاص الحكومة فى خدمتهم.
وقد سبق أرسطو إلى أهمية توزيع مهام الحكم كضمان لمنع التفرد، ورأى أن تنقسم الحكومة بين الاستشارة والإدارة والقضاء، وهى الصيغة التى عبر عنها مونتسكيو بعد قرون بمناداته بالفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولكن أرسطو عارض أستاذه أفلاطون فى شيوع الملكية، كما عارضه فى احتكار السلطة.
وبمذهب أفلاطون وأرسطو تمت لأثينا رسالتها فى فلسفة الحكومة.
وأتت رسالة روما بعد رسالة أثينا، وهى رسالة عملية يقل فيها نصيب الدراسات الفلسفية، وباستثناء القوانين المكتوبة، بقى من تراث روما فى فلسفة الحكم كتابان كلاهما لخطيبها الأكبر «شيشرون» (106 / 43 ق م)، وهما كتاب «الجمهورية»، وكتاب «القوانين». وقد عرفت روما ضروب الحكم جميعًا مع تعدد أنواع الحكام وتعدد المحكومين، فعرفت الملك والجمهورية والقنصلية والدكتاتور العادل، والدكتاتور الظالم ورقابة الشيوخ الأعيان ورقابة الوكلاء الشعبيين. وعرفت الحكم الذى يقوم على حقوق العلية، والذى يقوم على حقوق العلية والعامة، والحكم الذى يستثنى منه الأرقاء، والحكم الذى يقبلون فيه بعض القبول، ومن ثم فقد تركت بتجاربها العملية رسالة عامرة بالنماذج والتطبيقات والتعديلات لا يستغنى عنها باحث دارس لنظم الحكم.
ومن أقوال خطيبها الأكبر شيشرون، أن أفضل المجتمعات هو المجتمع الذى يوافق إلهام الطبيعة ولا يعطل هذا الإلهام بزيغان المطامع والشهوات. وينكر رأى أفلاطون أن ذوى الاستعداد لفهم الشريعة قليلون، بل يرى على العكس أنه ما من إنسان إلا وهو قادر على فهم الشريعة كما توحيها الطبيعة.
Email: [email protected]
www.ragai2009.com