عن الذكاء والغباء فى السياسة (2)
في دولة أوروبية أتابع أخبارها تقدم نائب محترم من نواب مجلس الأمة باقتراح عاجل؛ طالب فيه بإعفاء ضريبى معتبر لأصحاب الحيوانات الأليفة، لأن تكاليف الحياة ارتفعت، وفى البلد نفسه قال نائب آخر إنه آن الأوان لأن يتم تعديل اسم تذاكر المطاعم، وهى كوبونات تُصرف للعاملين فى الدولة أو فى الشركات، للمساهمة فى دفع فواتير الغذاء بالقرب من محل العمل، واقترح النائب المحترم اسمًا جديدًا وهو “تذاكر الأكل”. وضع هذه الدولة المالى بالغ الصعوبة، فعجز ميزانيتها يتفاقم، وديونها ترتفع، وهى فى حيرة من أمرها لا تعرف كيف يمكن تعديل المسار، كل هذا لا يدخل فى عين الاعتبار، إعفاء ضريبى جديد مطلوب تستفيد منه فئات واسعة من أصحاب الكلاب والقطط. هذه الدولة، إضافة إلى عدم وجود أغلبية فى البرلمان، إلى جانب أزمة الديون والعجز، تعانى تدهور أداء منظومة الصحة، وانهيار التعليم رغم أهمية أعداد العاملين فى هذا المجال، وشأنها شأن باقى دول أوروبا؛ عليها تقوية جيشها، وزيادة عدد المُعدات وكمية الذخائر، والإنفاق على تصميم أسلحة المستقبل، وتمويل المساعدات لأوكرانيا، والنهوض بصناعاتها، والاستثمار فى البحث العلمى وفى التكنولوجيات الجديدة، والعمل على الانتقال إلى اقتصاد بيئى، والتفكير فى السياسات تجاه المهاجرين، هل كل هذا أقل أهمية من إجراء حوار وطنى حول اسم تذاكر المطاعم؟
ثم تتعجب نُخب الحكم والنخب الليبرالية وتُولول لأن استطلاعات الرأى تقول إن قطاعات شعبية كبيرة لم تعد تؤمن بالنظام الديمقراطى.
أودُّ أن أوضح أمرين لكى لا يُساء فهمى. من ناحية، أؤمن بأن الديمقراطية أكثر الأنظمة قدرة على ضمان الحرية، وأن الإنسان الحر أكثر قدرة على العطاء من الإنسان المقهور صاحب عقلية العبيد، لكننى أؤمن أيضًا بأن النظام الديمقراطى لا ينجح دون منظومة أخلاقية تدفع الكل إلى الارتقاء بالأداء وإلى تغليب الصالح العام. والمشكلة أن النظام الديمقراطى المقر لنسبية الأمور ولمبدأ التنافس على كسب الأصوات بكل الوسائل، يؤثر بالسلب على منظومة الأخلاق الضرورية لحسن أدائه.
ومن ناحية أخرى أعرف أن الذكاء اللامع ودماثة الأخلاق لا يضمنان جودة الأداء. الرئيس الأمريكى جيمى كارتر كان من أذكى رؤساء العالم، وأرفعهم خلقًا، لكنه فشل فشلًا ذريعًا بصفته رئيسًا. الرئيس السوفيتى جورباتشوف كان يجمع بين رؤية واضحة لما يريد تحقيقه، وذكاء لامع، وأخلاق تستحق الإعجاب والإجلال، لكنه فشل فشلًا ذريعًا. شخصيًّا، أرى أن فشله يشرِّفه، وأتصور أن مكانته عند رب العالمين أعلى بكثير من مقام بعض الناجحين، لكن الفشل الكارثى يبقى فشلًا كارثيًّا.
ويقال عن الرئيس ريجان، وهو من أنجح رؤساء الولايات المتحدة، إنه كان من الأغبياء، لكن الصحفى الكبير ديفيد هالبرستام قال، فى أحد كتبه، إن مقابر السياسة الأمريكية مليئة بجثث مَن قللوا من شأن الرجل واستهانوا به. لا أعلم إن كان ريجان غبيًّا، لكن من الواضح أنك لا تستطيع الفوز بانتخابات رئاسية مرتين، إن لم تكن فاهمًا لقواعد اللعبة ولمجتمعك فهمًا عميقًا. وفيما يخص ريجان، يمكن القول إن الأفكار الحاكمة لتوجهات سياساته كانت بسيطة بساطةً قد تصل إلى حد التفاهة، ويمكن تلخصيها كالآتى: الدولة التى تتدخل فى كل شيء وتُوسع من مسئولياتها ومن إنفاقها تزيد حتمًا من الأعباء الضريبية، وتدخُّلها فى الاقتصاد يقيّده، ورفعها للضرائب يقيّده أيضًا. ومن ناحية أخرى، كان يرى أن النظام الشيوعى مُعادٍ للفطرة وشديد الهشاشة، وأنه لن يتحمل مواجهة حقيقية مع الولايات المتحدة، وكان يتمتع بمهارة فائقة فى توظيف الرموز العزيزة على القلوب الأمريكية لمخاطبة الأمريكيين.
يمكن تسفيه قناعات ريجان، أو القول إن بعضها أو أغلبها ليس صالحًا لكل مكان وزمان، لكنه ظل مجاهرًا ومتمسكًا بها لا يتنازل عنها، إلى أن جاءت مرحلة تطلب مثل هذا الرجل ومثل هذه القناعات.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية