في عام 1917، وبينما تعيش البلاد في ظل ظروف استثنائية استنزفت قوى المصريين، ونهبت أموالهم، بعد جملة من التدخلات الأجنبية في شئونها الداخلية، شهدت بوابة مصر الشرقية “الإسماعيلية”، ميلاد مؤسس أكبر شركة مقاولات في الشرق الأوسط، إنه عثمان أحمد عثمان، أحد “الحلوانية” الذين شاركوا في بناء مصر، والذي تحل اليوم ذكرى وفاته الـ22.
الظروف القاسية التي كانت تعيشها مصر، لم تكن هي العائق الأكبر، أمام مستقبل هذا الطفل الذي ولد في الخامس من أبريل عام 1917، بل إن فقدان العائل “الأب”، قبل أن يٌكمل الطفل عامه الثالث، كان كالصخرة التي تقف أمام أي مستقبل، أو طموح لهذا الرضيع فيما بعد، فالأسرة فقيرة ومعدمة، والعائل قد مات.
ما أقسى وأشقى هذه الطفولة، فلا أموال تركها الأب، ولا عمل تمتلكه الأم، لكنه الإصرار وحده، هو القادر على تحدى ظروف الحياة، ومواجهة الأقدار، ليقرر الأخ الأكبر “محمد” أن يعمل، ليتعلم شقيقه، ويصبح من حملة الشهادات العليا.
رحلة طويلة، عانى فيها الأخ الأكبر، حتى أن انتهي هذا الطفل من اتمام الشهادة الثانوية، ليفتح الباب أمامه للالتحاق بكلية الهندسة جامعة القاهرة، لكن الأخ لم يعد قادرا على تحمل هذه الكٌلفه، فقد أنهكته المسئولية، ولم يكن عمله يدر الدخل الذي يجعله قادرا على تحمل نفقات دراسه أخيه الجامعية.
هنا تدخل القدر، بعد أن استسلم الشاب وأخوه، أمام هذا التحدي الهائل الذي يفوق قدرتهما، ليحصل على منحة دراسية من الجامعة، وتقرر شقيقته الكبرى أن تستضيفه للعيش معها في القاهرة.
أزمة الالتحاق بالجامعة والسكن قد انتهت، لكن مشكلة أخرى تقف أمام هذا الشاب، وهي من أين سيأتي بالأموال التي سيدفها للذهاب إلى الجامعة بشكل يومي؟، ليقرر التنقل من منزل شقيقته حتى الجامعة بالدراجة “عجلة” قام بتجميعها بنفسه.
أتم الشاب عامه الثالث والعشرين، ليتخرج من الجامعة حاصلا على درجة البكالوريوس في الهندسة المدنية، في عام 1940، وهي الفترة التي شهدت فيها البلاد الغزو الإيطالي لمصر، ليتم الاستيلاء على بلدة سيدي براني بمطروح، والتي تبعد نحو 95 كيلو مترا من الحدود المصرية الليبية، ليقرر العودة إلى موطنه “الإسماعيلية”، مره أخرى، لكن هذه المره ليعمل مع عمه الذي أصبح مقاولا، ويستمر معه في العمل لمدة تجاوزت العام والنصف.
في هذه الأثناء، وبينما البلاد في حالة من التوتر الدائم، فمصر دائما مطمعا للغزاة، قرر المهندس عثمان أحمد عثمان، أن يخلع عباءة التبعية، ويترك العمل مع عمه، ويشرع في تأسيس شركة مقاولات، أطلق عليها اسمه، لكن الخطوة جريئة فالبلاد بطولها وعرضها لا يوجد بها أي شركة مصرية تعمل في مجال المقاولات.
تأسيس شركة مقاولات في هذه الفترة هو أمر بالغ الصعوبة خاصة وأن هذا الشاب لا يملك سوى 180 جنيها حصيلة عمله مع عمه طيلة 18 شهرا، لكنه القرار الذي لا تراجع فيه، لتبدأ الشركة عملها بشخص واحد وهو المؤسس، من خلال غرفة صغيرة، ليدخل سوق العقارات من خلال تأسيس متاجر صغيرة وصيانة مباني وإنشاء جراجات.
توسعت الشركة لتنافس الشركات الأجنبية في عدد من المشروعات، لتقوم بتنفيذ مدرسة للفتيات، ومسرح، في محافظة الإسماعيلية، قبل أن ينقل اهتمامه للمشاريع الكبرى في القاهرة، والتي كانت نقطة تحول في حياته المهنية.
طموح المهندس الشاب، كان جامحا، ففي خمسينيات القرن الماضي، سافر المهندس عثمان أحمد عثمان إلى السعودية، بعد أن شهدت المملكة طفرة في قطاع البناء بفعل اكتشافات النفط التي حولت منطقة الخليج بالكامل، لكنز هائل، بات مقصدا ومطمعا لكل أصحاب الأعمال والمشروعات، واستطاع عثمان استغلال ذلك التحول لصالحه جيدا، فبعد فترة قصيرة للغاية تمكن من تنفيذ مشروعات بملايين الدولارات في الكويت والامارات والسعودية، وليبيا والعراق.
سنوات قضاها الشاب المصري متنقلا بين دول الخليج، ليعود إلى مصر في عام 1956، وهي تلك الفترة التي شهدت عزم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تأسيس السد العالي، عقب قراره التاريخي بتأميم قناة السويس، ليتمكن عثمان من الاستحواذ على عقد بقيمة 48 مليون دولار لتنفيذ المشروع الذي أطلق عليه حينها “سد أسوان”.
عدم وجود شركات مقاولات وطنية كبيرة بخلاف الشركة التي يمتلكها عثمان أحمد عثمان، هو الأمر الذي دفع الرئيس عبد الناصر، لتكليف الشركة بتنفيذ بناء المخابىء، والمطارات الحربية، وصوامع الصواريخ، وعدد من المشروعات الحربية السرية، وهو ما جعل الرجل أحد المقربين من عبد الناصر.
قرار تأميم قناة السويس، كانت له تبعاته على الاقتصاد المصري، فبنوك فرنسا، وإنجلترا، وأمريكا، جمدت الأموال المصرية المودعة لديها، كما أن كافة البنوك امتنعت عن تمويل بناء السد العالي، وهو ما دفع الرئيس عبد الناصر، وبحسب وزير الاقتصاد حينها حسن عباس زكي، لقرار تأميم الشركات المصرية، بمن فيهم شركة عثمان أحمد عثمان، والتي تغير اسمها عقب التأميم إلى شركة “المقاولون العرب”.
المهندس الشاب عثمان أحمد عثمان، يتابع مشروعاته في دول الخليج، ليقرر العودة إلى مصر، بعد قرار تأميم شركته، ويؤكد على مواصلة الشركة للعمل بنفس الكفاءة بغض النظر عمن يمتلكها، لتستمر الشركة على ذات الأداء وتتمكن من التوسع يوما بعد الآخر.
في عام 1970، تعرض الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لنوبة قلبية تسببت في وفاته، ليتولى أمر البلاد الصديق القديم لعثمان أحمد عثمان، الرئيس محمد أنور السادات، والذي استعان به الأخير في بناء العبارات التي حملت القوات المصرية في قناة السويس، خلال حرب التحرير عام 1973، وبعدها بعام عينه السادات وزيرا للإسكان حتى عام 1976.
تدرج عثمان أحمد عثمان في المناصب السياسية حيث تولى منصب أمين عام الحزب الوطني بالإسماعيلية في العام 1978، وفي العام التالي أصبح نقيبا للمهندسين، قبل أن يصبح عضوا في البرلمان عام 1979 إلى عام 1999 حيث توفي بعد صراع مع مرض القلب يوم عيد العمال، ليبقى اسمه مرتبطا بالعمل والاصرار والنجاح.
المقاولون العرب التي بدأت برأس مال بلغ 180 جنيها، وكان يعمل بها شخص واحدا، باتت أحد أهم وأكبر الشركات في منطقة الشرق الأوسط، بعد أن تجاوز رأس مال الشركة الـ7 مليارات جنيه.