بداية؛ فمصطلح (تحرير دخل الفرد) ومع كل احترامى لخبراء الاقتصاد والعمل والمال، يعتبر مصطلحا منحوتا أو مستحدثا، لأنى أنظر لدخل الفرد كمسجون بمجموعة نظم وقوالب اقتصادية واجتماعية متوارثة، فرضت صورا محدودة لمفهوم (دخل الفرد) بمصر، وساعد حرج الوضع المعيشى والانكماش الاقتصادى العالمى وتداعيات أزمة كورونا عالميا مؤخرا، على تفاقم تطور وتعقيد وتفسخ صور الدخل الفردي، لدرجة استباحة أى عمل أو نشاط (ولو غير متخصص أو ناتج عن موهبة أو كفاءة أو تدريب)، ليكون مبررا لزيادة دخل الفرد بمجتمع ورث قواعد الاشتراكية لتحقيق (العدالة الاجتماعية) ويصارع بنظم الرأسمالية (أدوات وحرية السوق)! ومن هنا يرفض السجين إلا ويصارع لاستحداث صور لزيادة دخله ولو على حساب الحلال والحرام والتخصص والجودة والذوق.
لعرض الفكرة، يمثل دخل الفرد إجمالى ما يتحصل للفرد وأسرته من عمله أو بأى مصادر أخرى يعتمدها، لأداء واجباته ومسؤولياته وتكون فيه النقود وسيلته الوحيدة لتلبيتها. دخل الفرد مصطلح اقتصادى ينصرف للأشخاص الطبيعية وليس الكيانات، ولقدرة الشخص لأداء عمل أو وظيفة تستند لمؤهل أو تدريب أو موهبة، بوظيفة أو حرفة. ومن هنا فمهم التعرض لأنواع الدخل من (أ) الدخل المكتسب وهو الأكثر انتشارًا، المُعبر عن الدخل المكتسب من العمل بوظيفة ينفق فيها مقدارًا معيّنًا من الوقت والجهد (ب) دخل الاستثمار أو الدخل الرأسمالي، الخاص بالمبالغ المالية المكتسبة ببيع استثمار معيّن بمبلغ أكبر من المبلغ المشترى به، مثل بيع وشراء الأسهم أو التجارة بالذهب (وهو غير متوفر للكافة) (ج) الدخل السلبى أو المال المكتسب من ممتلكات دون الحاجة لبذل الكثير من الوقت والجهد، كتأجير العقارات، نشر وبيع الملكيات الفكرية أو أى استثمار بعائد دون إنفاق جهد كبير.
يخص مفهوم (تحرير دخل الفرد) النوع الأول من الدخل المكتسب، الذى يكافح له ملايين المصريين يوميا لتوفير نقود كافية لمجرد سد التزاماتهم والبقاء أحياء وليس تحقيق أحلامهم!
ومع التطورات الاقتصادية الأخيرة الشاملة لرفع الضرائب والرسوم وسحب الدعم وارتفاع الأسعار وإعادة التقييم ورسملة كافة الخدمات وعدم تناسب زيادة المرتبات (الحكومية والخاصة) مع معطيات زيادة تكلفة المعيشة، فضلا عن تعقد إجراءات وموافقات بداية وتنفيذ الأعمال والمشروعات، بجانب محاولات فرض معالجات مالية جديدة للممتلكات العقارية والسكن حتى الأحوال الشخصية، كل ذلك جعل دخل الفرد أمام معضلة لمواجهة الثورة الجديدة فى تطوير تعامل الفرد ماليا مع الحياة بمصر! من هنا أصبح الدخل المكتسب (أزمة) فرضت على الفرد المصرى محاولة تنويع مصادر دخله بغض النظر عن كفاءته أو موهبته أو قدراته أو حتى كرامته!
المشكلة بدأت من تبنى الدولة بخمسينيات القرن الماضى للرؤية الاشتراكية بالعمل لحماية العمال والموظفين، الحد الأدنى للمرتبات، التأمينات الاجتماعية والصحية لحماية النسيج المجتمعى تحقيقا للعدالة الاجتماعية، بما جعل الدولة الأم الحانية لموظفيها، بفلسفة القطاع العام بنظم التعيين والفصل بقوانين العمل القديمة والمتعاقبة، على حساب جودة العمل والإنتاجية، بما أثمر مع الزمن رغم تغيير العهود، عن استئساد العامل والموظف بالخطأ، بقوانين وبيئات عمل تحمى أخطائه ولو على حساب نجاح أو مصلحة العمل ذاته! طالما الخطأ خارج أسباب الفصل المحددة بقوانين العمل! وعليه أصبح دخله المكتسب المضمون حكوميا لأغراض سياسية، هو الحد الأدنى المأمون والحافظ لهوية الشخصية المصرية بعلاقتها بالعمل ومفهوم الدخل المكتسب. ومن هنا انطلق مع التطورات الاقتصادية الأخيرة لتنويع مصادر دخله ولو على حساب جودة ما يقدمه أو يعمله، ولو كان ناقصا أو ضارا أو غير منتج بصورة محترفة.
المشكلة الأخرى، أن منظومة القيم المصرية والتعليم والثقافة والتدريب تهرأت بآخر 30 سنة، وسمحت للشخصية المصرية بالتقلب بين العديد من التصرفات والأنشطة والأعمال المعاونة لزيادة الدخل المكتسب، بدون ضوابط أو قيم! وأصبح كسب النقود خارج الدخل المكتسب، هو العامل الحاسم للاستمرار بغض النظر عن صحة أو مشروعية أو جودة أو قيمة العمل المقدم، تمسكا باستئساد موروث بالجينات بحتمية دعم الدولة للدخل المكتسب الأساسى وفراغ رهيب حول صور الدخل الإضافى!
ومن هنا طفت صور مشوهة لزيادة الدخل بالغناء أو الكتابة أو التمثيل أو السمسرة أو الإنتاج الفنى مثلا، بدون احترام للقواعد، المواهب، القيم أو استهداف ترقية الذوق! ظهر تطور بحالات المنافسة غير المشروعة وبيع الأسرار والرشوة، بل وأنواع جديدة مطورة للشحاتة والإتاوات غير المسماة! أصبحت زيادة الدخل مفهوما جديدا للبقاء وليس تفعيلا صحيا وحقيقيا لمعرفة القيمة الحقيقية للفرد ولاستثمار مواهبه واستهداف أسواق حقيقية تستفيد منهما!
لدينا أمثلة صارخة لصور زيادة الدخل بغض النظر عن قيمة ومواهب أصحابها، فأصبح معتادا للموظفين العمل بـ«أوبر» و«كريم»، العديد تحول لبزنس التوكتوك، وبيع التجزئة أونلاين، للسمسرة بالبشر والحجر، بزنس المسابقات التلفزيونية، تجاوز أفلام عهد المقاولات للتكسب من السواد والمساوئ وأغانى المهرجانات إلخ.
أصبح دخل الفرد بالمنظومة القديمة، سجينا لمجتمع يحتاج تطويرا يحرره بتعليم وتثقيف وتدريب البشر يعاصر نهضة الحجر، تطويرا يستهدف استعادة وإنعاش الشخصية المصرية وقيمها ومفهومها لقيم العرض والطلب والتطوير الذاتى واستحقاق الأجر عن جدارة ومعرفة ونتائج، وليس الورث أو الفرض أو الإتاوة. تحرير دخل الفرد مفهوم اقتصادى اجتماعى سياسي، يلزمه خطط طموحة لربط عموم المصريين (وأغلبهم شباب) بعهد جديد يعبر به من الدخل المكتسب لدخل الاستثمار، ليصل به للدخل السلبى آمنا.
ولكن كيف يمكن تحرير دخل الفرد؟
* محامى وكاتب مصرى