مع أستاذي مكرم
بداية أقول إننى لم أكن أقرب شخص إليه، ولكننى حضرت جلسات «ضيقة» كان مستريحًا فيها يبوح بما فى قلبه.
وأضيف أننى لا أظن أننى فهمت كل شيء، فإن شاء بعض الأصدقاء تصحيح تفسيرى لأقواله فأّهلًا وسهلًا. إلى جانب هذا كنت مهتمًا بموضوعاتٍ يذكرها ولا أهتم بغيرها، ومن ثم لا أتذكر ما قيل بشأن ما لم يكن على جدول أبحاثي.
أحسب أن مساهمتى هذه واجب تجاهه وتجاه الوطن، لأنه لم يكتب مذاكرته. رفض هذا مرارًا رغم ذاكرته القوية وإلمامه بالتفاصيل وفهمه للخطوط العامة، ألححت عليه مع غيرى- عصام عاشور وعلى درغام ونبيل عبد الفتاح ومصباح قطب وغيرنا- وعرضنا مساعدته على القيام بهذه المهمة (التدقيق فى التواريخ، فى رسم سياق الأحداث، المساهمة فى شرح ما هو غامض للشباب)، ولكنه رفض بإصرار، لسببٍ يقدره متابعو الشأن العام. قال تحديدًا سنة 2019: بلغت الرابعة والثمانين، وأبذل يوميًّا قصارى جهدي لمتابعة التحولات على الساحات العالمية والإقليمية والداخلية، أتابعها وأحاول فهمها وشرحها، وطاقتي قلّت، لن أستطيع الجمع بين هذا المجهود وكتابة مذكرات جادة.
قد تكون هناك أسباب أخرى، قال لى مرة أحد رموز الحكم الناصري: لا أكتب مذكرات، مرة ذكر أحد الزملاء رواية لى فى مذكراته، وكنت الوحيد الذى حضر الواقعة، وفوجئت بآلاف من الأنطاع يوجهون لي الشتائم ويزعمون أنهم يصححون معلوماتي، لا أحد منهم كان موجودًا ولا أحد منهم يعرف ما دار، ولكن كلامى لم يكن يتفق وتصوراتهم،
مكرم كان يرى- فى جلساته الضيقة- أن هناك طلبًا على الديمقراطية فى مصر، قد لا يتصدر قائمة المطالب السياسية للشعب ولكنه ليس بعيدًا عن الصدارة، وكان يرى أن مستشاري السوء ينكرون واقع هذا الطلب، وكان يرى أن الشعب وطبقاته الوسطى «أكثر تعقلًا وفهمًا للواقع» من كوادر المعارضة، وأن لا أوهام لهم، فهم مدركون صعوبة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وحدود مواردنا وراغبون فى المشاركة
لا أعرف كيف كان يعرف الديمقراطية؛ لأنه كان يعلم أيضًا أن مصر لم تعرف فى تاريخها انتخابات نزيهة، لا يلعب فيها المال أو السلطة أو الاثنان دورًا مفسدًا، ما أعلمه أنه كان يرى أن انهيار المهنية فى الوسط الإعلامي- كتابة موضوعات قطعية دون أى سند من الواقع، الافتراء فى الهجوم على بعض الشخصيات العامة.. إلخ- قوى حجة من عادى حرية الصحافة.
أريد أن أذكر نقطة قد تبدو بديهية وسخيفة لمحبّيه ولكننى أراها ضرورية، ذكر لى ما لا يقل عن أربعة من المثقفين والصحفيين الأقباط أنه لم يكن يحب الأقباط وأنه كان شديد التعصب ضدهم، وكاتم الشهادة شيطان أخرس، من واجبى أن أقول إننى عرفته وعرفته جيدًا لمدة زادت على العشرين سنة، ولم أشاهد أو أسمع مرة- ولو مرة- جملة تسيء إليهم أو تنتقص من حقهم أو تشكك فى وطنيتهم أو تذم أخلاقهم، ولا موقفًا سلبيًّا منهم. بالعكس كان تعامله معي تعامل الوالد المُحب مع ابنه، وكان دائمًا يبدي مشاعر ونصائح ساعدتنى كثيرًا فى المِحن وفى غيرها،
حضرت فى أواخر فبراير 2007 عشاءً جمع بين وزير من وزراء المجموعة الاقتصادية، كان من المحسوبين على جمال مبارك ولكن مكرمًا كان يقول دائمًا إنه من رجال الرئيس حسني، وعدد معتبر من كبار الصحفيين وكوادر الدولة، وكان النقاش ممتعًا رفيع المستوى مذهلًا فى قدرة الحاضرين على استشراف المستقبل. وبسلاسة تزعّم مكرم الحوار ونظّمه وحاجَج الوزير.
أجمع من تكلم… الوزير ومكرم وغيرهم… على كون السياسة الاقتصادية المتبعة تشكل خطرًا بالغًا على النظام لأنها تُفقده قواعده الاجتماعية، وكان الخلاف بينهما حول إمكان اتباع سياسة أخرى.
يتبع * أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية