مع استدارة القرنين الأخيرين من مسيرة الحركة الصهيونية للسطو على دور مصر- قلب الوطن العربي- لما يُعرف بهيمنة «الحقبة اليهودية» على منطقة الشرق الأوسط ، يبدو السجال العربي- الصهيونى على وشك بلوغه الأشواط النهائية للصراع، منذ ابتدائه بزرع إسرائيل فى الأرض الفلسطينية- بالقهر والتطويع- وانتهاء باقتراب تسوية شاملة ربما على أساس دولة فلسطينية «غير موصولة» منقوصة الحقوق، وفقًا لمؤشرات استطلاعات الرأى العام الأخيرة فى إسرائيل، ربما مقابل سلام اقتصادى مرجح طالما نادت بها قوى اليمين، فى إطار سعيها إلى «ضم الأراضي» المحتلة، بديلًا عن «حل وسط إقليمى» تفضله قوى اليسار، إذ تلوّح الدولة العبرية لتسويق أفكار يفضلها البعض من جانبى النزاع فيما يقارب دولة فلسطينية يطلقون عليها «سويسرا الشرق»، يمكن للصهيونية توظيفها على غرار ما يطلق على «حصان طروادة» فى الجسم العربى للهيمنة عليه بالكامل، فيما محاولات ابتلاعها لفلسطين لم تنتهِ بعد.
بالعودة إلى سياق المراحل الأولى للصراع العربي- الإسرائيلى، فقد كان من الطبيعى للعالم العربى الوقوف لأسباب قومية وإسلامية إلى جانب المظلومية الفلسطينية، إلا من خصوصية وطنية إضافية للحالة المصرية، سواء فى دفاعها من جانب عن الدور الإقليمى لأراضيها المقدسة التى تصل آسيا بأفريقيا، وكمدخل لبلاد المشرق جميعها، ولاعتبارها- من وجهة نظر ثالثة- مستودعًا لكنوز أوروبا.. كما للدول التى يعلوها «القوس العظيم» من شرق آسيا إلى غرب الشرق الأوسط، ما يجعلها- والوطن العربى- محل استهداف الأطماع المالية الاحتكارية للصهيونية العالمية، أو سواء فى دفاع مصر من جانب آخر عن سينائها التى سارعت إسرائيل بعد ثمانى سنوات من إعلان الدولة باحتلالها مرتين متتاليتين فى غضون عشرة أعوام، لم تنسحب عنها- بصفة ليست غير نهائية- إلا بالحديد والنار، ما لا يحول بين مصر وموقفها المبدئى فى التحفظ على سابق بيع فلسطينيين أراضيهم للمهاجرين اليهود أو لاتجاه بعض قيادييهم الحاليين إلى المجاهرة بالقبول بوضعية «الخادم التابع» للدولة العبرية إذا ما أتاحت لهم- الأخيرة- أن يكونوا بالنسبة للعرب أشبه بـ»سويسرا الشرق»، على حد تعبيرهم، حتى لو كانت تلك المزية الصهيونية- غير المجانية- خصمًا من الرصيد العربى، ولصالح الغايات العليا للمشروع الصهيونى.
إلى ذلك، لم تنقطع الاتصالات السرية عبر وسطاء بين قياديين فلسطينيين.. وبين قادة من حزب العمل الإسرائيلى، حتى فى خضمّ الاشتباكات بين الجانبين، وإذ ينقل عن «جولدا مائير» قولها عند رفضها خطة لاغتيال «عرفات».. من ذا الذى سوف يتفاوض معنا إذن؟ ذلك قبل نحو عقدين من توقيع «عرفات» و»رابين» اتفاقية «أوسلو».. حيث اغتيل الأخير فى أعقابها 1995، على يد متطرف إسرائيلى من قوى اليمين.. التى غيبت بعدئذ «عرفات 2004»، فيما واصلت تجميد عملية التسوية فى إطار تطويع الفلسطيين للقبول بالدور المخطط لهم صهيونيًّا، فضلًا عن الحصول على موافقات أميركية بالنسبة لضم القدس وأجزاء من غور الأردن للسيادة الإسرائيلية، بحيث لا يعود أمام الفلسطينيين، أو هكذا يبدو من وجهة نظر إسرائيلية، غير الإذعان لتسوية يكونون فيها مواطنين من الدرجة الثانية أو دونها.. داخل دولة يهودية نقية، ربما لا يفضلها الجانبان لأسبابهما، أو القبول عندئذ بدولة فلسطينية بجانب إسرائيل، محاطة بالمستوطنات من كل صوب، بحيث تكون رُقعها غير المتصلة أشبه بالكانتونات والبانتوستات السويسرية (قديمًا)، وتحت السيادة الأمنية الإسرائيلية، الأمر الذى يتوازى- للمفاجأة- فى منتصف مارس الحالى، مع اتجاه أحزاب اليمين الإسرائيلى، حتى المتطرفة منها، والمتوقع حصولها على ثلثى مقاعد الكنيست فى الانتخابات المرتقبة نهاية الشهر، للقبول بدولة فلسطينية.. تؤيدهم إليها القائمة الإسلامية (العربية) التى قد تصبح «لسان الميزان» بين العسكريين المتنافسين لاختيار الحكومة الائتلافية المقبلة، التى لا يعترض الرئيس الفلسطينى عن التحدث وبالتعاون معها مقابل مكاسب للعرب (لم يحددها)، من المفترض لزامًا أن تحظى بموافقة مصر فى ضوء ما سبق تسجيله مما لديها من تحفظات لأسباب وطنية وقومية على المديين المباشر وبعيد المدى. خلاصة القول، ورغم الاتفاق من عدمه على نهج إطلاق أحكام على السياسيين العرب عمومًا، وعلى القادة الفلسطينيين خصوصًا، فمن الأجدر للمعلق السياسى من خارج موقع اتخاذ القرار أن يتجنبها، إلا عن كونه فى قلب الميدان، السياسى أو القتالي، لعقود سابقة، لربما كان لتعليقاته أن تتخذ صفة الحسم، كأنها سيف يقطع الشك باليقين فيما يتم تدبيره فى إطار التعاون الفلسطيني- الإسرائيلى، ولو بالقهر، نحو بنائهما دولة مستحدثة مشتركة يعرِّفانها فى أحاديثهم المغلقة بأشبه ما تكون «سويسرا الشرق»، الأمر الذى سوف يؤدى لتكريس هيمنة الحقبة اليهودية فى الشرق الأوسط الجديد، وفقًا لما أفصح عنه «شيمون بيريز»، ضمنًا خلال كلمته فى الدار البيضاء 1995، أو لما قد ينتويه المشروع الأميركى للشرق الأوسط «الموسع».. حيث قد تستعيد واشنطن تأسيسه مجددًا (ورشة البحرين الاقتصادية مثالًا) وعلى نهج مغاير لسابق مفاهيم التسوية النهائية للمسألة الفلسطينية، ذلك بالتوازى مع إغراءات صهيونية للفلسطينيين بدور «سويسرا الشرق» الاقتصادى، لصالحها، فى قلب المنطقة