الحديث عن تنظيم النسل بـ 2021 مختلف جدا عن بدايات إطلاقه بمصر عام 1936 بكتاب (سكان هذا الكوكب) للعملاق محمد عوض، كذلك عن أول فتوى لشيخ الأزهر عبد المجيد سليم، بإجازة وسائل تنظيم النسل والجدل الطبي والديني المعاصر لها. مختلف أيضا عن نهج عبد الناصر برفضه الفكرة لتعويله على التنمية كحل للمشكلة، المؤسسة اشتراكيا على سوء توزيع الثروة. كذلك مختلف عن تبني المجلس الأعلي لتنظيم الاسرة 1965 هذه التسمية بمشروعاتها، بعد رفض الأزهر مصطلح (تحديد النسل). مختلف أيضا عن رؤية إدارة السادات بالسبعينات للتصدي للمشكلة، ومحاولة حلها مكانيا بمحور التنمية والمدن الجديدة لتخفيف القاهرة. وأخيرا مختلف لتناول حقبة مبارك للمشكلة بتصعيدها خطابيا ومشروعات لم تحلها.
بجميع الحالات كان نسل المصريين نقمة ونعمة لهذا البلد معا، التي تنتظر رؤية وإدارة مختلفة. نقمة لابتلاع الزيادة السكانية للموارد بمجتمع استهلاكي لا إنتاجي، تفشي البطالة، إهلاك الخدمات، تضخم استيراد القمح، إضعاف الدخل، عدم توازن الزيادة مع تطور التقنية / مقابل نعمة الشباب كقوة ضاربة، بقيم تتهالك تدريجيا.
فهل مقترح قانون تنظيم النسل سيحل مشكلة 85 سنة، ليكون كن فتكون؟ (ينشد القانون فرض حل الأزمة اقتصاديا بتحجيم دعم الأسرة لطفلين فقط) أم أن جذور المشكلة، أبعادها، وتداعياتها اختلفت عن بدايتها وتطورها وسيحتاج علاجها لآليات أكثر؟
خطورة تنظيم النسل بـ 2021، وصوله لمخاوف تحققت؛ كانفجار سكاني تخطي مائة مليون، إدمان الوادي والعزوف عن المدن الجديدة، تهرؤ الطبقة الوسطى وإرهاق الخدمات وتغول الفقر، تأثر الموازنة وأزمة التجارة الخارجية وانفجار الدين العام، ارتفاع الإعالة وانخفاض الاستثمار والادخار، فواجع كورونا، غلو المعيشة وتصعيب الكسب والانسحاب التدريجي للدعم، والأخطر مطلقا عدم تناسب كيف ومخرجات السكان مع مُخرجات كمها، كنتيجة طبيعية متراكمة لتحرج جودة التعليم وتدهوره، ضعف منظومة التدريب والتأهيل، وهن الدور الإعلامي وتسطح الثقافة وتميع الوعي الجمعي، إفساد التقنية لإنسان الريف، تفشي الأمراض والانحرافات الاجتماعية، لتكون المحصلة غلظة سكانية غير مؤهلة أو مدربة أو مثقفة حياتيا أو مستثمرة أو يمكن تحريكها داخليا أو تصديرها كخبرات للأسواق الخارجية!
إذن ليست المشكلة فقط بتنظيم (حجم) السكان، ولكن بضعف قيمة وكيف هذا الحجم واستمرار توالده بذات الكيفية! هنا سيكون العلاج الاقتصادي للقانون محدودا بتباطؤ إشكالية (الحجم) فقط دون تنامي الكيف! فبفرض النجاح التدريجي ـ بحسبان الالتزام بالقانون ـ خلال الـ 50 سنة القادمة، إلا أنه باستمرار تصاعد الاختراق الثقافي والإعلامي والتقني والوهن التعليمي والتدريبي، فسيكون الحجم السكاني المطور غير مضمون تطور النتيجة بدون خطط تكميلية.
لذلك؛ فلا لتنظيم النسل اقتصاديا فقط! لا لربط استمرار وجود المصريين بتقليص دعمهم! فكما ستغنم الدولة تقليص دعمهم بسبب الابتلاعية، عليها غُرم ترقية وجودهم لأسباب تحسينهم.
تنظيم نسل المصريين بالاقتصاد، حتما يقترن بنظم وقوانين لتحسين نسلهم لتقديم المصري الجديد، كمنتج يُبدأ 2022 مع تطبيق القانون، كمنتج يستعيد لهم وبهم مجدهم في وجود قّيم فعالة ومؤثرة، من خلال خطة عشرينية/عشرية/ خمسية لإعادة تصميم منظومة تعليم واقعية ومحترفة، بمشروع ثقافي مصري حقيقي ينفض الفن المتردي تدريجيا، بإنشاء صندوق متخصص لرواد الأعمال وصناعة حقيقية للمواهب والاستثمار فيها، بإخراج ورعاية كنوز الاختراعات المسجونة بأكاديمية البحث العلمي، بإنقاذ تليفزيون وقنوات الدولة لإنقاذ الوعي وإخراجه من محنته، بمشروع وزاري إتلافي يوجه لتطوير خدمات الوزارات لصناعة المنتج الجديد، بخطط وقيادات إعلامية تستعيد منظومة القيم المُنهكة، بحملة توثيق للخبرات المتراكمة المهدرة بكل المجالات وتلقين دروسهم المستفادة، بتطوير خطط ومنهجيات محترفة للتدريب والتأهيل بكل المستويات، بتطوير لمنهجية تدريب المدربين للكافة وجعل شهادة محو الأمية العادية والتقنية لـ 10 أفراد من شروط التعيين لكل الوظائف الحكومية والخاصة، بتحريك كتل سكانية بأكملها للمدن الجديدة وربطها بتنمية محلية مستقلة مباشرة، بعمل برامج إلزامية للخدمة الوطنية بمشروعات الدولة لمدة 6 شهور لكل شباب مصر من سن 18-20 ، بعمل مخصص من الصندوق السيادي وتوجيه الأموال المصادرة من تجارة الممنوعات وضرائبها لمشروعات تنمية حقيقية تستوعب أطفال شوارع مصر بكل أعمارهم، بنهضة حقيقية للتعليم المهني والصناعي والفني يخّدم عليها إعلام مدروس، بدراسات محترفة لأسواق الدول المحتاجة لعمالة مدربة أو ماهرة وخبرات وتصميم برامج تعليم ورفع كفاءة وتخصص لتلبية احتياجاتهم، بتطوير لدور التكنولوجيا والاتصالات لتجاوز مفاهيم الأجهزة ومواقع الإنتزنت، بإلزام كل النقابات ببرامج تدريب وتأهيل علمية حقيقية تحقق قيمة مضافة، بإلزام اتحادات الصناعات المختلفة بالاستثمار في المدارس الصناعية والفنية، بإلزام نواب البرلمان ومجلس الشيوخ بتقديم كشف حساب عن متابعة مراكز التدريب ورفع الكفاءة بمناطقهم.
لا لتنظيم نسل المصريين بالإعلام المتسطح والببغائية التلفزيونية والدعاية الدينية فقط، بل بربط الالتزام بالتنظيم بخطط زمنية قياسية للدعم وبرامج تمويل فعالة للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، بإعادة تمكين مصر زراعيا واستحداث نظم تستعيد إيمان المصريين بقيمة وقيم الريف، بجلب خبراء عالميين لتصميم صورة المصري الجديد.. المُنتج، الموهوب، الصانع، المبتكر.
لا لتنظيم النسل؛ استفزاز إيجابي لصحوة آن وقتها وتحدٍ حقيقي للإدارة المصرية لإعادة اكتشاف مصر القرن 21، فتنظيم النسل 2021 هو الفريضة الغائبة عن وعي الإنسان المصري، وقانون تنظيم النسل هو بداية الجهاد!
* محامى وكاتب مصرى