راجعتُ أسلوبي فى المجادلة، ووجدت نفسي أرفض أحيانًا المقارنة مع دول أخرى، قائلًا إن حالة مصر خاصة جدًّا، وقابلًا لها فى أحيانٍ أخرى قائلًا مثلًا « هذا الحل المقترح لم ينفع فى أغلب الدول التى لجأت إليه»، والتناقض بين الحجتين ظاهر. لو مصر «حالة خاصة» فلن يجوز التحجج بما حدث فى دول أخرى.
أحاول ترتيب أفكاري. أولًا… قول إن مصر حالة فريدة، قول هذا يفترض أننى (أو غيري) مُلمّ بأحوال كل دول العالم، وهذا الشرط غير متوفر فيما يخصُّني، وهو غالبًا غير متوفر فى اللاجئين إلى تلك الحجة. مَن منا يقول هذا يقصد غالبًا أن مصر غير بقية الدول العربية، و/أو أن مصر ليست دولة غربية، ووجاهة هذا الكلام تتوقف على القضية التى نتحدث فيها. هذه الحجة قوية عندما نتناول قضايا، وضعيفة أو باطلة فى أحوال أخرى.
ثانيًا… من يقول ما معناه « فى الدول المتقدمة/ المتحضرة يحدث كذا» قاصدًا أننا متخلفون جدًّا، يكون عامة جاهلًا بأحوال الدول الأخرى باحثًا عن مجتمعٍ مثالىٍّ تصوَّر أنه موجود فى الخارج. فتأتي إدانة الأوضاع فى مصر قوية جدًّا. لن أقول إن الأوضاع فى الخارج كأوضاعنا أو أسوأ منها، ولكنها ليست بالجمال المتصوَّر هنا. قنوات التليفزيون الفرنسي (والقنوات الأمريكية التى أتابعها) تمنع ضيوفًا من الحضور، الأمن يتعامل بخشونة بالغة مع بعض المتظاهرين… إلخ. نعم مجال الحريات أَوسع من هنا وبكثير، ولكن المنع موجود، والقدرة على قبول الرأي الآخر لها حدود لا يبررها الصالح العام.
ثالثًا… أرى أن مصر شأنها شأن أي مجتمع تنفرد بتجربتها التاريخية وبثقافتها. ولكن هذا الكلام يحتاج إلى تحديد. وأجتهد وأقول… كل خصلة؛ أو على الأقل أغلب الخصال المصرية، تجدها فى مجتمع أو مجتمعات أخرى، ولكن الجمع والمزج بينها خاص بمصر، ويترتب على هذا أن هناك قضايا يمكن أن نستعين فيها بتجربة الآخرين؛ إما بتبنّي ما فعلوه مع تكييفه أو ضبطه ليلائم أحوالنا، وإما برفضه إنْ قدَّرْنا أن تجربتهم فاشلة. وفى كل هذه الأحوال المقارَنة مبرَّرة. وهناك قضايا أخرى لا تجوز فيه أية مقارنة.
عددٌ كبير من الخبراء يقارنون مصر بكوريا، أو باليابان. والمنطق واحد… فى وقتٍ ما كُنا مثلهم، ولكنهم سبَقونا وبكثير، وهذا يدلّ على أن خياراتنا السياسية والاقتصادية كانت سيئة تمامًا، على عكس خياراتهم. لست خبيرًا فى الشئون الكورية، ولكن بحثًا سريعًا على الإنترنت أقنعني بأن المقارنة لا تجوز إن كان هدفها التحقير، المساعدات الأمريكية كانت كثيفة، وتدخُّل واشنطن كان سافرًا… ولكنه منع النظام من ارتكاب بعض الحماقات، منعت الدولة لفترة طويلة الاستيراد من الخارج، وهذا غير ممكن فى مصر، وعرفت كوريا مَجازر لا يمكن الدفاع عنها، حتى لو خلقت الظروف التى سمحت لاحقًا بطفرة اقتصادية. وأخيرًا نِسب الزيادة السكانية مختلفة.
وفيما يتعلق باليابان- هنا المقارنة تبدأ منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن التاسع عشر؛ فأحوالها عند نقطة الانطلاق أحسن من أحوالنا، الأمية لم تكن متفشية، الغرب لم يستهدف اليابان لفترة؛ لأنه كان يركز على الصين، وهذا أعطى «فترة هدوء» من ناحية، وجعل التعامل معه (الغرب) أقل حساسية… إلخ.
لا يعني ما سبق أن هذه التجارب لن تعلِّمنا شيئًا، بل يعني… علينا عدم احتقار تاريخنا وخفض سقف توقعاتنا إنْ قرّرنا تبنِّي سياسات تشبه سياساتهم.
أعود إلى فكرتي؛ مصر دولة/ أمة إسلامية “إسلام سُنّي”- لن أناقش مقولة إنها شيعية الهوى- بها أقلية غير مسلمة يُعتدّ بها. وهى أيضًا دولة مركزية تعاني اتساع حدودها وطول خطوط الإمداد، بمعنى أن التجمعات السكانية بعيدة جدًّا عن الحدود.
يتبع
أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية