والاستدلال على صحة المقدمات بنتائجها الملحوظة لا يكون قاطعًا كليًا إلاّ فى حالة مراقبة العقل وإحاطته التامة بكل واقع تلك المقدمات ثم ملاحظته الدقيقة الصحيحة للنتائج وربطنا عقليا هذه بتلك. أما غياب عامل آخر متصور للناتج عن وعينا وعقلنا باستمرار وبلا تخلف ملاحظ من جانبنا واستبعادنا لوجوده كسبب لقيامه هو، فتلك خطوة بشرية اعتادتها عقولنا فى معاملاتنا بعضنا مع بعض فى وقائع دنيانا.. ولذا احتجنا للإذعان للغيب الذى يتجاوز حتما أبعاد دنيا الآدمى، عوضا عن الاحتكام إلى نشاطات وعينا وعقلنا وفهمنا.. فجعلنا الغيب الذى لم يبد لنا ما كذبه أو يكذبه، فى حكم البديهى الذى لم نتعود رؤية خلافه نحن ولا من قبلنا ولا من سيأتى من بعدنا.
وما يبدو بديهيا بالنسبة للبشر لم يخرج عن كونه كذلك بالنسبة لهم كنشاط آدمى من إحدى وظائف حياة الإنسان.. فمقاييسنا البشرية صحيحة صحة نسبية قابلة دائما للتصحيح والتعديل وإعادة النظر والمراجعة.. لأنها دائما مقاييس بالنسبة للنظام المعمول فيه بهذه المقاييس التى لا يمكن أن تحيل إحالة معتبرة إلاّ عليه هو بذاته.. فلا يمكن أن نحاسب الكون الهائل ببديهياتنا البشرية التى كثيرًا ما لا يشاركنا فيها الكون!
وعقلنا يعرف منذ القدم غير المحدود بمعنى الذى لا يعرف آخره أو نهايته فى الكبر أو الصغر أو الامتداد أو الحجم أو الطول أو القصر أو القوة أو الضعف أو القدم أو الجدة أو الثقل أو الخفة أى النهايات الممكنة فى تلك المقادير والأوصاف والأوزان والمقاييس وأمثالها مما يتداخل الفكر فيه مع الخيال والخيال مع الفكر.. لأن الآدمى لا يقف حتما عند حدود ما يحسه وتحيط به حواسه وتعيّنه له إدراكاته، بل يمدها خياله بعض المَدّ ثم يبقى الباب مفتوحا لخيال من يريد.. فلفظة «غير» المضافة إلى كلمة المحدود ـــ هى هذا الباب المفتوح فى استعمال العاديين من البشر للتعبير عمّا تجاوز مقدورهم المألوف فى العد والقياس والوزن والتقدير والحساب.. وهم بذلك ينفضون أيديهم من حساب بعد السماء وسعة الأرض وسرعات الرياح ومياه البحار وعدد الأرواح والأحياء وكمية النجوم والكواكب والأفلاك وقدم الأزل وطول الأبد وما شابه ذلك.. لأن حدود محدودية البشر ترسمها بالحتم حواسهم ومشاعرهم وذاكرتهم، وهى حدود دائما وبالضرورة نسبية بنت وقتها وعصرها غير عينية ولا كونية.
والعلم الوضعى حاول ويحاول وسيظل يحاول الخروج بالبشر من تلك النظرة الساذجة البدائية بالاتفاق بين أهل العلم والعمل على رموز بعينها للقياسات والأوزان والأحجام والطاقات والعناصر والذرات والجزئيات والبللورات وتحديد معان منضبطة متعارف عليها وحدها فى دوائر العلم والأحمال للأجناس والأنواع والأصول والفروع والعائلات والأعضاء والأجزاء وأجزائهـا.. وهذه وغيرها كلها تحديدات بشرية لا يعرفها الكون، ولكن موضوعاتها فروق بين تكوينات ذلك الكون العظيم..احتاج البشر إلى التعرف عليها وتسميتها بمسميات بشرية للانتفاع بها فى مساعيهم.. بحيث إذا اندثر الآدميون لم يعد لتلك القياسات والرموز والمصطلحات والتحذيرات أى وجود.. لأنها من ابتكار البشر لخدمة البشر فى استعمال ما قد يتيسر لهم استعماله من ذلك الكون بشىء من النظام والاعتياد والتطور والترقى فى الانتفاع.. فالاندثار هو أفدح الأخطار على البشر.. ومن ثم يجب أن يكون موضوع التفاتنا الأول والأهم للتحرز منه والعمل الدائب على تفاديه واستبعاده.
والآدميون فى نظر العلم الوضعى أحدث الحيوانات العليا وجودًا على هذه الأرض.. وقد سبقهم أجناس وأنواع انقرض منها الكثير وباق منها الكثير بين ظهرانينا.. هذا الباقى من تلك الأجناس قد عانى ويعانى خلال الأزمنة المتوالية والأمكنة المختلفة تطورًا بطيئًا أو سريعًا تبعا للظروف والأحوال.. والاندثار أو الانقراض قسيم إيجاد الموجود فى حدود معارفنا.. كما أن موت الأفراد قسيم إيجادهم، وهذا حدث لم يتخلف قط فى صدد أى حىّ من المخلوقات فى أى زمان وأى مكان لأن تلازم الحياة والموت فيما يبدو قانون كونى.
www. ragai2009.com