من تراب الطريق (1017)

رجائى عطية

10:04 ص, الثلاثاء, 12 يناير 21

رجائى عطية

رجائى عطية

10:04 ص, الثلاثاء, 12 يناير 21

محاولة للفهم (6)

فى زماننا وجد الثراء الفاحش غير المسبوق وذلك لدى الكثيرين.. سواء فى الجماعات المتقدمة أو فى الجماعـات التى انهالت عليها الأموال فجأة من اكتشاف الموارد الطبيعية الكثيفة الثمينة فى أرضها أو بحرها.. وهو ثراء خلا فى الحالين تقريبًا من العواطف الإنسانية ومن القيم.. وهو يبادر إلى التبرع بالملايين للحفاظ على المكانة وللزيادة فى الثراء والنفوذ الذى يضمن استمرار زيادة ما عنده.. قد شحبت عنده أبوة الأب ورقة الزوج وعمق الصداقة.. وأهم من ذلك كله ضاع عند الفرد الإحساس القوى بالانتماء إلى جماعته ـ طالما بقيت ثروته فى حضنه أو رهن إرادته وإشارته!

ومعظمنا لا يقاوم النسيان.. أعنى نسيان الماضى قديمًا كان أو حديثًا.. لأننا عادةً نرحب بما نراه ونسمعه فى حاضرنا مما لم يسبق لنا رؤيته أو السماع عنه. لأننا نأخذه على أنه جديد علينا.. مهمًّا كان أو تافهًا!.. وهذا فيما يبدو ـ فرار من الملل واستدامة لشعورنا بحركة الحياة وباشتراكنا فيها بجديد قد لا يكون فى ذاته جديدًا.. فنحن نكاد نعتبر

جديدًا ـ كل ما نسمعه أو نراه من صاحبه أو كاتبه أو قارئه!.. ما إن نعرفه حتى نتباهى بمعرفته ونزفه إلى سامعين أو قارئين دليلا نؤكد به سعة معرفتنا وسبقنا إلى معرفة كل جديد!

ومن مئات السنين الماضية بل من ألوفها.. عاشت البشرية حضاراتها غارقة ـ علماءها وقراءها ـ فى بحور من النقوش والأوراق والتآليف والسير والأمجاد والكتب والدواوين والتفاسير والعلوم والفلسفات والأنظمة.. وباتت تلك البحور فى أيامنا هذه محيطات هائلة متلاطمة لا يعرف لها حدود ولا قاع، وامتلأت بها المكتبات والمعامل والمتاحف والمعاهد والمراصد والإذاعات والصحف أنحاء المعمورة.. إذ امتدت المطابع البالغة التطور والسرعة والقدرة ـ بفضل التطور الهائل فى الكومبيوتر والاتصال الفضائى والأرضى واستخدام الليزر وغيره من عجائب ـ امتدت إلى الانتقال فى كل لحظة تقريبا ـ إلى مسامع ورؤى العالم مباشرة.. توافيه وتلاحقه من مصادر عديدة متنافسة.. لا تبالى إلاّ باللحظة التى يجرى فيها ما ترصده أو تنقله أو تنشره.. فبات معظم الآدميين يعرفون ما لا يُعرف ولا يعرفون ما ينبغى لهم أن يعرفوه!

ذلك شائع الآن فى الأغلبية الغالبة التى لا تحسن فهم ما تقرؤه وتكتبه، لأنها لا تحسن فهم النفس واستعداداتها، ولا تدرك الوظيفة الأساسية المشتركة لهذه الاستعدادات ـ وهى التعاون والتوازن!..ومن بين هذه الأغلبية الغالبة كثيرون لا يحصرون ـ يؤلفون وينتقدون ويحبذون ويسخطون ولا يدركون ولا يلتفتون إلى تلك الوظيفة الأساسية المشتركة، فيضلون ويضللون ويشيعون ما لم يعرفوا حقيقته ومخاطره وعواقبه.. يقذفون به إلى الملأ الذى يتلقاه عادةً بالترحيب وأحيانًا كثيرة بالتصديق فى سذاجة لا تعرف خطورة مادته ومسئولية من يستعملها ومن يستقبلها!.. وربما كان هذا من أسباب الخلل فى حضارتنا الحالية الذى نشهده هنا وهناك منتشرًا فى كل جماعة ومكان!

والانتباه والنسيان ظاهرتان أساسيتان من مظاهر المعرفة البشرية.. إذ الآدمى ينتبه إلى معرفة كل ما يسترعى انتباهه.. خاصة إذا كان جديدًا عليه.. إما لكى ينضم هذا الجديد إلى سابق عنده يكمله أو يعدله أو يضيف إليه، وإما لكى يحل محل سابقه فى الوعى والذاكرة.. وهى عمليات تتكرر بغير حصر وبلا انقطاع فى أطوار حياة كل منا دون أن نفطن تمامًا لتوالى تلك الإضافات أو التغيرات.. وذلك الجديد فى حينه ـ وقتياً كان أو غير وقتى ـ قد يثبته الاعتياد أوْ لا يثبته فى الوعى والذاكرة، وقد يمحوه النسيان من الوعى ولا تبرزه الذاكرة أو ترده إليه!

والمعرفة ملتقى معلومات الآدمى الواعية الحاضرة والمهيأة للاستدعاء، وحصيلة ما يجمعه ويعبئه الوعى والذاكرة معًا لدى كل منا.. وقد تشبه المعدة فى التلقى والخلط والمزج والإضافة ودوام التقليب والهضم والامتصاص والطرد.. قريبًا كان ذلك أو بعيدًا من العاطفة أو العقل.

ونحن جميعًا لا نشعر بانتقال المعرفة الدائم بصورة أو أخرى.. جزئيًا أو غير جزئى.. من الفرد إلى آخرين قليلين أو كثيرين.. حتمًا فى كل حين وكل زمان ومكان.. يحدث ذلك تلقائيًا وتحسبًا لمواجهة حتمية فناء الفرد ومحدودية عمره قصر أو طال.. علما بأن القادم قد يزيد أو ينقص فيما يصل إليه من المعرفة الموجودة، وقد يقنع بما وصل إليه منها. وهى دائمًا معرفة نسبية وستظل كذلك.. تجمع من الماضى والحاضر والمستقبل، ومن الثابت والراجح والمحتمل والمتخيل!

[email protected]