فى ظل الانحسار المطرد فى العقد الأخير عن سياسة الانفراج غير المحدود منذ عشية تسعينيات القرن الماضى بين واشنطن وموسكو، كما فى ضوء المراجعات التاريخية عن المقاربة الإستراتيجية- بعد طول لأي- فى مطلع السبعينيات بين واشنطن وبكين، التى أدت وقتئذ إلى شرخ عميق فى العلاقات الصينية- السوفيتية، قبل عودتها فى العقد الأخير إلى طبيعتها بين العاصمتين الشرقيتين الكبيرتين، إذ لسوف تنعكس هذه المتغيرات الجارية بين دول الترويكا العظمى على نشوء وضعية ليست غير مفاجئة تمامًا بالنسبة لمستقبل منطقة الشرق الأوسط فى السنوات المقبلة، على خلفية عودة سحب متجددة لحرب باردة فيما بين ثلاثتهم، وحلفائهم.. وإلى سباق التسليح، وفى السعى نحو تشكيل محاور جديدة تعيد تقسيم المنطقة (والعالم) بين كل من روسيا والصين من جانب، وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب آخر، وهى العائدة فى ظل إدارتها الجديدة إلى استئناف مرحلة الشراكة الأوروبية عبر الأطلنطي، ما قد يحصر المجتمع الدولى إزاء التنافس بين المعسكرين إلى أشبه ما تكون بالحقبة لما قبل الأحادية الأميركية التى أخفقت عن زعامة العالم بمفردها طوال العقود الثلاثة الأخيرة، ما أدى بالنظام الدولى إلى حالة من السيولة غير المسبوقة، ولتنتهى الحال بتأرجح الولايات المتحدة فى مطلع عشرينيات القرن الحالي.. بين تيارين، يمين شعبوي.. ويسار ليبرالي، إذ أخفق «ترامب» فى الفوز بفترة رئاسية ثانية إلا أن أنصاره من اليمين الشعبوى المقدر تعدادهم بما يقارب المائة مليون إلا قليلا، ما زالوا يضعون عصىّ سياساتهم فى السنوات الأربع الأخيرة فى دواليب إدارة الرئيس المنتخب «بايدن» ابن المؤسسة السياسية العميقة، التى تعكف على إعادة ترتيب ملفات رئيسية تسلمتها من الإدارة الجمهورية السابقة، سواء ما يخص منها علاقات الولايات المتحدة مع خصومها التقليديين أو حلفائها التاريخيين، ومن خلال مقاربة التحديات مع الخصوم التقليديين (روسيا والصين وحلفائهما) بسياسة «العصا والجزرة» من ناحية، كذلك باستخدام وسائل «القوة الناعمة»، من جانب آخر لمواجهة الملفات الواجب معالجتها- بالحزم الودود- مع حلفائها التاريخيين فى الشرق الأوسط، كالمسألة الفلسطينية وحقوق الإنسان وأمن إسرائيل إلى لجم عود تركيا ولما يتصل بالعودة للعمل بالاتفاق النووى الإيرانى.. إلخ، إلا أن الشرق الأوسط سوف يبقى فى ظل معالجة قضاياه وأزماته المزمنة.. أسير المؤثرات الناشئة عن تطور العلاقات بين الولايات المتحدة وكل من روسيا «القوة النووية الثانية فى العالم»، ومع الصين «القوة الاقتصادية الثانية فى العالم»، إذ لثلاثتهم مصالح حيوية فى الشرق الأوسط لا يمكن لأحدهم التغاضى عنها، فيما تعتبر النخبة السياسية الأميركية كلًّا من الصين وروسيا عدوًّا للولايات المتحدة بشكل عام، رغم أنه ليس من مصلحة أى من اللاعبين العالميين الثلاثة فى الشرق الأوسط.. إزاحة أحدهم للآخر (إذ تعتبر عودة النفوذ الروسى بعد عقود من طرده من المنطقة مثالًا عمليًّا)، كما من المحال لأى منهم تقويض مركز الآخر.. بالنظر إلى ضرورة وجوده لدول معينة بالمنطقة، سواء من الناحية الأمنية أو لإشباع احتياجات أساسية من الموارد المختلفة للبعض (سوريا نموذجًا)، خاصة عند التقييم الحرج للغاية لحالة كل من الاقتصاد الأميركى لما يقارب، لأسبابه، الكساد الكبير فى الثلاثينيات، أو لحالة الاقتصاد الروسى لما يلوح عليه، لأسبابه، من علامات ركود طويلة، وذلك باستثناء الحالة الصينية التى تشهد تقدمًا اقتصاديًّا وتقنيًّا مقارنة بطرفى الترويكا الآخرين، ما يؤهل بكين إلى مباشرة أدوار دبلوماسية واقتصادية سوف تنعكس على تصاعد نفوذها فى الشرق الأوسط، ما يجوز معه القول إن نهج الرئيس الأميركى «بايدن» الأكثر عقلانية مع الصين.. عن نهج «ترامب» العدوانى إزاءها سوف يعود بالطرفين إلى التفاوض فيما يتصل بالشرق الأوسط بشكل خاص، ربما على حساب العلاقة بين موسكو وبكين التى رغم استبعاد فضّها لأسباب عديدة لكن فكرتها لا تزال راسخة فى ذهنية السياسة الخارجية الأميركية، على غرار ما جرى بين ثلاثتهم فى مطلع السبعينيات، وإذ لربما تسهم المقاربة الأميركية المحتملة من الاتفاق النووى الإيرانى، بدورها فى هذا الشأن لجهة فض التحالف بين موسكو وطهران فى سوريا، ولصالح التحالف الصاعد فى مجمل المنطقة بين الصين وإيران، وذلك فى إطار من سياسة خطوة- خطوة الأميركية، وفى معيتها إسرائيل، إزاء الصين التى تتمتع بعلاقات متعددة الأطراف مع جانبى الصراع العربى- الإسرائيلى، ومن خلال مبادرتها العالمية «الحزام والطريق» التى يمكن أن تسهم فى دعم الأمن والازدهار الاقتصادى الإقليميين، إذا ما تجاوز عقم صراعات «دول الترويكا» العظمى فى الشرق الأوسط.
End of current post