نعم لتحليلات ودراسات عن خبراء ومراقبين.. تؤكد تحولات إستراتيجية كبيرة.. سوف تمهد لنظام عالمى جديد، قد تلحق عبره الولايات المتحدة فى الأمد القريب أو المتوسط إلى ما يقارب – مع الفارق – التفكك الذى انتهى إليه مصير الإمبراطورية السوفيتية قبل ثلاثة عقود، تزعمت خلالها «الأحادية الأميركية» النظام الدولى، لكن على خلفية كل من التقدم الاقتصادى والتقنى الصاعد للصين منذ 1978، والوحدة السياسية بين دول الاتحاد الأوروبى مطلع التسعينيات، وبالتزامن مع استنهاض القومية الروسية من بعد انكسارها.. لدورها الإقليمى والدولى منذ العام 2006 (مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي)، وبالتوازى مع توابع انفجارات نيويورك وواشنطن فى سبتمبر 2001 – التى لا تزال تمثل حدثاً مفصلياً غامض الملابسات فى التاريخ السياسى الأميركى المعاصر، سواء بالنسبة لتوابعه على الأوضاع الداخلية أو التحركات الخارجية، خاصة فى العقد الأخير الذى يمثله البعض اقتصادياً بفترة «الكساد الكبير» فى الثلاثينيات، كما فى تغلغل المشاعر العنصرية حالياً إلى جانب مناحى الإنقسامات الأخرى فى مختلف مفاصل المجتمع الأميركى، ناهيك عن تحول العاصمة واشنطن من رمز للاستثنائية الأميركية.. لتصبح من أكثر عواصم العالم المتقدم ضعفاً من حيث الأفق السياسى، ما قد يدفع الإدارة الأميركية القادمة لإعادة تجريب ما سبق أن قام به من قبل رؤساء أميركيون للاستفادة من النظم السياسية الأوروبية بخاصة.. كلما بدأت بلادهم المعاناة من أسقام التراجع والتدهور، وبما يلائم بقاء قوتها الحالية كدولة عظمى، إذ سوف يساعدها عندئذ نظام ديمقراطى راسخ. ومؤسسات رصينة يحميها القانون.. واقتصاد سوق تتحكم فى آلياته شركات كبرى عملاقة، باتت مؤخراً فى ظل «العولمة».. متعددة الجنسيات، وعابرة للحدود والأوطان وفقاً «للنيوليبرالية» ما أصبح ينعكس على الشخصية الأميركية- سيكولوجياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً- المبنية على قاعدة الحرية الفردية، كما هو معروف عن اقتصادات السوق الحرة.
إلى ذلك، وبسببه، تعتبر أميركا كياناً إمبريالياً تسيّره وتتحكم فيه شركات عملاقة هدفها الربح بمختلف الطرق المتاحة شرعاً أو غير ذلك، سواء بالقوة العسكرية الهائلة Hyper power أم باستخدام قدراتها الاقتصادية أم من خلال تدبير الانقلابات العسكرية أو الاغتيالات السياسية، أو باستخدام منظومة وكلائها المحليين من المخدرين بالغرب فى دول العالم الثالث، وفى ظل الترويج لنموذج خطاب ديمقراطى أميركى حقيقى، مهما كانت عيوبه، لكن لا يعنى إضفاءه منظومة إنسانية على الإمبريالية الأميركية، بل العكس تماماً هو الصحيح، مهما تخفّت فى تجديد تكتيكاتها بين الشيء ونقيضه.. تنفيذاً لأيديولوجيتها واستراتيجيتها، حتى وإن تدثرت بـ«المثالية» التى تزودها بتبريرات على غرار نموذجها الليبرالى الديمقراطى، ما يجعلها مقبولة أكثر فى عيون البعض من المخدرين بها.. إذ ينادون بالالتقاء مع الولايات المتحدة فى منتصف الطريق، بزعم تحييدها ما دامت القيم الأميركية تتطابق مع القيم الشاملة للتقدم الليبرالى، ما يمكن أميركا عندئذ الجلوس على مقعدين فى آن واحد، بين دورها القيمى المثالى كما صدّرته عقب الحرب العظمى لحق الشعوب فى تقرير المصير.. جنباً إلى جنب مع دورها الإمبريالى، الأمر الذى يقيم الدليل تلو الآخر على صحة تطبيقها نظرية المؤامرة، قياساً على سابق عصور الاستعمار بدعوى العمران وليس الاستغلال، ووفقاً إلى نشأة إسرائيل كوطن قومى ليهود الشتات وليس كقاعدة أميركية فى المشرق العربى، مروراً بحروب الخليج بذريعة منع الانتشار النووى وليس تطبيقاً – الحاصل – لنظرية «الاحتواء المزدوج» الأميركى، وليس آخراً بمكافحة الإرهاب – كحق يراد به باطل- فى حربهم المقدسة مع الصهيونية ضد الإسلام (صحيفة بلتيمور صن 1987).. إلخ، ولا مانع فى هذا أو ذاك من التمسح بنشر نموذجها الديمقراطى، وفى الدفاع عن حقوق الإنسان، إلا من غض البصر عن دكتاتوريات حليفة لأهداف برجماتية، كما سبق أن انتقده الرئيسان «كارتر» (1979) و«بايدن» 2020، سواء من جراء «الخوف الجامح من الشيوعية» أو بهدف «الامتداد الجيوسياسي»، ذلك من قبل أن ينقلب سحر (المؤامرة) على الساحر (المتآمر) فى عقر البيت الأميركى نفسه، حيث تنتشر المطالبات لاتخاذ إجراءات ضد «أفكار غريبة» بدعوى أن الوقت غير مناسب لـ«حرية التعبير» و«الرأى الآخر»، وما إلى غير ذلك- بحسبهم- من شعارات ديمقراطية ذهبت أدراج الرياح طوال العقد الأخير، وفى سنوات رئاسة «ترامب»، ما يفسح المجال للشرعية التى اكتسبتها نظرية المؤامرة فى ظل شيوع الانقسامات المختلفة فى الداخل الأميركى، وكنتاج لحالة الشك العميقة التى أصابت كثيراً من الأميركيين، ربما منذ كانت هجمات سبتمبر 2001، بحيث لم يعد من حق أحد دون غيره الترويج من عدمه لنظرية المؤامرة ضد الآخرين، وهو ما يزيح من ثم عن الإمبريالية الأميركية غطاء مثاليتها. خلاصة القول، سوف تظل أميركا على قوتها، بل وسيعاد بناؤها بما يلائم شكل العالم الحديث، إلا أنها لن تبقى على قوتها الحالية… بل قد تتراجع كثيراً مقارنة بالقوى الأخرى الصاعدة إلى مصاف مرتبتها كدولة كبرى عظمى.. تتحكم فى مصائر الدول لفترات قد تطول، بأقله، إلى حين تصبح «الشعوب المستضعفة» قادرة على التحرر بوعيها الإنسانى العالمى الجديد من سطوة الأقوياء، ومن بعد شفاء مرضاها المحليين- المخدرين بالغرب- وبالاعتماد من ثم على قوتها فحسب، وعلى قدراتها الذاتية، وتقدمها الاقتصادى والعسكرى والتقنى، وإلى توازن علاقاتها بناءً على الاحترام المتبادل مع مختلف القوى الكبرى، إذ عندئذ لن يكون أمام أميركا (وغيرها) إزاء صحوة المقهورين غير التخلى عن نظرية المؤامرة، وفى تنقية المثالية من إمبرياليتها