الإسلام والغرب نموذجاً
ربما لم تتعرض ديانة من الديانات السماوية للإيذاء النفسى والبدنى – مثل ما نالته اليهودية من تنمر وازدراء وسخرية، خاصة من جانب المجتمعات الغربية وفى العالم المسيحى عامة، قبل أن تجتهد فى السعى منذ ستينيات القرن الماضى على سنّ قوانين عالمية تجرّم معاداة السامية، ذلك بنفس الغرار من العداء الذى كان بين الغرب المسيحى والإسلام الذى وصفته جريدة «بلتيمور صن» الأميركية 1987 بـ«الثأر التاريخي المقدس» بينهما منذ معركة نهر «ملفيوس» جنوب فرنسا فى القرن 16، الذى لم يخفت أواره حتى من بعد قيام الحلفاء الأوروبيين فى الحرب العظمى بتفكيك وإسقاط «دولة الخلافة» الإسلامية 1924، قبل محاولاتهم الفاشلة تشجيع ملوك عرب (..) لإحيائها مجدداً ضمن الاستراتيجية الغربية، ما دعتها فى إطار السياسة الاستعمارية «فرق تسد» إلى رعاية قيام واقتياد جماعة الإخوان المسلمين منذ العام 1928، ذلك فى الوقت الذى اتجهت الرأسمالية العالمية الاحتكارية للغرب إلى عقد صفقة سياسية مع الصهيونية الدولية.. وعدت بموجبها (بلفور 1917) إقامة وطن قومى لليهود، مع التعهد وفقاً للإعلان الغربى الثلاثى 1950.. بالحفاظ على بقاء وأمن دولة إسرائيل (ذات النقاء اليهودي)، للعمل كقاعدة عسكرية وسياسية ثابتة للغرب فى الشرق الأوسط، إلى حدّ أن وصفها الرئيس الأميركى «ريجان» مطلع الثمانينيات بـ«الكنز الاستراتيجي»، فيما وصفها خصوم الغرب (السوفييت) أنها قرة قوز (أراجوز) الإمبريالية الغربية، إذ سرعان ما تطورت العلاقة الأيديولوجية الدينية بينهما لما تسمى «المسيحية الصهيونية» التى أصبح لنفوذها التصويتى فيما بعد.. دور بارز فى اختيار الرؤساء الأميركيين، ليس آخرهم «دونالد ترامب» فى العام 2016.
أما بالنسبة للعلاقة بين الغرب واستخدامه السياسى للإسلام، فقد انحصر بعد فشله في إعادة إحياء الخلافة الإسلامية تحت هيمنته، للتوجه نحو محاولة تمكين جماعة «الإخوان» من الحكم ابتداء ً من مصر (دولة المنشأ)، حيث تمكنت من بعد نحو عقدين من الرعاية البريطانية، من التحصل على دعم معنوى غير مباشر من الولايات المتحدة، لأسبابها، للمشاركة الشعبية فى حركة الجيش 1952، قبل أن يرفض «عبدالناصر» ورفاقه فى مجلس قيادة الثورة.. القبول برغبتهم الوصاية على الثورة، ما أدى إلى اصطدامهما فى العام 1954 و1965، قبل أن يجرى غض البصر عن نشاطاتهم السياسية مع مطلع السبعينيات إلى اغتيالهم «السادات» 1981، ليخلفه «مبارك» الذى ارتهنت سياسته إلى حد ما بنواهى أميركية.. منها السماح لجماعة الإخوان الدخول فى ائتلافات حزبية أتاحت لأعضائها مقاعد برلمانية.. وصلت فى العام 2005 إلى نحو 88 مقعداً، الأمر الذى توازى فى جانب آخر مع اعتماد واشنطن بعد عام من انفجارات نيويورك سبتمبر 2001.. حزب العدالة والتنمية فى تركيا.. نموذجاً لما اعتبرته الإسلام « المعتدل» فى مواجهة التنظيمات الإسلامية المتطرفة، الأمر الذى دعا الرئيس «أوباما» فى خطابه بجامعة القاهرة يونيو 2009.. للإشارة إلى ضرورة تأسيس شراكة بين أميركا والإسلام، قاصداً بذلك على الأرجح جماعة الإخوان المسلمين التى كان قادتها يجلسون فى الصف الأول بناءً على مطلبه آنئذ، إذ كان على ما يبدو مغامرا فيما ارتآه بأن العالم الإسلامى فى قبضة التنظيم الدولى للإخوان، إيذاناً باستعادة الخلافة الإسلامية التى من شأنها تحقيق التعايش السلمى بين الغرب المسيحى والعالم الإسلامى، ربما جريا على ذات الغرار من التعايش بين طرفى المعادلة المسيحية- الصهيونية، ذلك على الرغم من استحالة ديمومة مثل هذا التعايش -بالمطلق- سواء بين الغرب المسيحي وكلٍ من الأصولية الإسلامية أو الأرثوذكسية اليهودية.
إلى ذلك، وفى سياقه، كما سبق للجيش المصرى أن حال دون تطلع جماعة الإخوان للوصاية على الحكم مطلع الخمسينيات، فقد رفض مجدداً دعم أميركا- السياسى والمالى- لحكومة الإخوان 2012، إيذاناً بالسعى لإسقاطها فى يوليو 2013، إلا أن «أوباما» ظل رافضاً بقوة الثورة الجماهيرية ضد الإخوان، باعتبارها انقلابا عسكريا، بل وظل محتفظاً بمستشاريه الستة من التنظيم الدولى للإخوان الذين كانوا يؤدون دوراً أساسياً فى ترسيخ العلاقة العضوية بين التنظيمات الإخوانية والحزب الديمقراطى الذى ظل يرأسه إلى أن خلفه الجمهوريون، حيث حاول «ترامب» التصويب إلى حد ما من سياسة بلاده تجاه مصر، إلا أنه لم يكن أمامه غير الصمت إزاء تغلغل السياسة التحالفية إلى الآن بين الإخوان والديمقراطيين (تسريبات كلينتون) وبين مؤسسات أميركية، مازالت تصوراتها مؤثرة على صانعى السياسة الأميركية، إذ حالت على سبيل المثال بين ترامب واعتباره «الإخوان»- «جماعة إرهابية»، حيث لا تزال تتلقى الدعم من دول حليفة لأميركا.. ومن منظمات حقوقية ودعائية تحظى على دعم وتمويل أميركي.. إلخ، ما يدعو الجماعة إلى مبادلة صمت «ترامب» بصمت مثله، ربما فى مقاربة محتملة بشأن خطته «صفقة القرن» للسلام فى الشرق الأوسط.
إلا أن لأوروبا، لأسبابها، مواقف مغايرة للنهج الأميركى فى الاستعمال السياسى للأديان، فى مقدمتها فرنسا، التى أعلن رئيسها 18 أكتوبر الحالى- عقب نحر أحد مواطنيها على يد شيشانى متطرف- عن خطة عمل «ضد» «الكيانات والجمعيات أو الأشخاص المقربين من الدوائر المتطرفة»، كما تنشط الحكومة الفرنسية فى مجال مكافحة ما تسميه «الإسلاموية السيبرانية»، كجهود أوروبية ليست بمنأى عن ضغوط اليمين المتشدد الذى يجتاح العالم الغربى، خاصة مع التناقص فى نسبة السكان المسيحيين مقابل تزايد شديد لنسبة السكان المسلمين، وهو ما تخلص منه الدراسات بأنه «كلما تقلص عدد السكان تقلصت معه الحضارة وهوت نحو التحدر»، كما يرى المخالفون من الأوروبيين للنهج الأميركي.. أن الإسلام السياسى فى تكوينه هرمى استبدادي.. ينبع من فكرة وجود سلطة عليا لا يمكن مساءلتها ولا محاسبتها (السمع والطاعة)، سواء كانت سلطة المرشد الأعلى بشقيها السنى فى جماعة «الإخوان المسلمين» أو الشيعى فى «ولاية الفقيه»، إذ تتحكمان فى مسيرة أتباعهما، التى تنطلق منذ سنوات.. من خلال مشروع خليط بين العثمانية والإخوانية السياسية.. كما من خلال الخلط الإيرانى لمشروع توسعى للقومية الفارسية مع تسييس «ولاية الفقيه»، ولما كان العالم الغربى قد ضاق ذرعا بتطلعاتهما التوسعية (ناهيك عن إسرائيل)، ولتحالفهما مع روسيا، فقد يتجه إما إلى مواجهتهما أو لاتخاذهما – على النهج الأميركى- نموذجاً للعلاقة بين الغرب والإسلام.