فى تقديرى أنه لا سن للموهبة!
فقد تزهر من الصغر، وقد تطفو فى الكبر. المهم وجودها ذاته، والأهم تطويرها، والأكثر أهمية الاستثمار فيها.
وفكرتى ترجمة عملية لقول فولتير: التربية تطور المواهب، ولكن لا تخلقها. لأن التربية منهج يعى ويشجع ويدعم ويطور ويستثمر فى الموهبة حتى تُصقل وتنتج.
فليس كل ميل موهبة، أو شخبطة فنًا، أو دندنة صوتًا، أو رص كلمات فكرًا، أو نقر عزفًا، أو تعبير تمثيلًا. الموهوب الأصيل مميز الروح غير مصطنع الأداء، حساس بطبعه، متذوق، متمرد بانضباط، تغلفه الدهشة ومحوره الشغف والتعلم، تركيزه متفرد، استقلاله حقيقى، سلوكياته مختلفة، دهشته محرجة، صراعه النفسى والاجتماعى جزء من وجوده فإما يواجهه أو ينسحب داخليا، ترعى فيه الرؤى ويترجم هوسه بقدر إمكانياته فى انتظار من يروضها ويمنهجها.
تربية الموهوب بيئة كاملة بغض النظر عن سنه! تعتبر أكثر الآراء التربية لصغار الموهوبين فقط، ولكن لتطوير الموهبة معنى أكبر، فقد يبدأ من الوالدين أو المدرسة أو الجامعة، ولكنه يمتد أعمق ليشمل الراعى ومدير الأعمال ووكيل المواهب ومنفذى إنتاجها، وجميعها أدوار لا نحترف التعامل معها عربيا، بمنهجية وتقنين واحتراف.
تتحكم الظروف الاقتصادية والقوانين وأعراف المجتمع والإعلام فى اكتشاف الموهبة ودعمها وتدريبها وتطويرها وتقديمها ليستثمر فيها. ومع ذلك فإن بدايات تطوير أى موهبة بأى مجال، حتما تبدأ من التشجيع بالكلمة الطيبة والاستيعاب والدعم المادى ولو محدودًا لتطل الموهبة برأسها، فإما تثبت نفسها لتستمر بجدية أو تكتفى بالكفاف لتتيبس وتأفل.
من أهم معوقات تربية المواهب، مقاومتهم اجتماعيا، معاملة تميزهم كشذوذ يُقاوم أو يُقبر، ضعف المدربين ونقص تدريبهم، فقر الإمكانيات، غياب مناخ الحرية وقبول الآخر واستيعاب الاختلاف، تغييب وعى المجتمع بقيمة رأس المال الفكرى وأهمية الإبداع، تأليه المظاهر والاستثمار فى القشور. والنتيجة اغتراب الموهوب وعزلته ونحر موهبته، ليعزل فى شرنقة موهبة موءودة، يقاوم رفضها بالعنف أو الإدمان أو الاكتئاب أو اللامبالاة أو الانتحار.
كثير جدا من الموهوبين تقلصت موهبتهم بسبب هذه المعوقات، فتحجمت بقدر ما نالوا من (تربية) حد الكفاف، ليخرجوا للمجتمع كقول ابن تيمية (لا يفسد الناس إلا نصف متكلم، ونصف فقيه، ونصف نحوى، ونصف طبيب) ولكنى أزيد ونصف موهوب.
ومع تغلغل التلفزيون والفضائيات والسوشيال ميديا واليوتيوب، قد يُطلق الموهوب لنفع ذاته أو أسرته أو مهنته أو دائرته الاجتماعية، وقد يصل للمجتمع ويكون أحد المؤثرين فى الوعى الجمعى، وهنا تظهر خطورة إنصاف الموهوبين، ليسمح وجودهم بطفح مدعين الموهبة ومنتحليها بسلبياتهم وسطحيتهم وشعوذتهم واختلاقهم ليُستثمر فيهم كظواهر لا مواهب، والنتيجة وعى جمعى غير موهوب فى الحس أو الفكر أو التذوق أو الرؤية، ليمكن قيادته بمنهج جوبلز وزير دعاية هتلر (أعطنى إعلاما بلا ضمير، أعطِك شعبا بلا وعي).
غير أنه؛ قبل الترقى للاستثمار المادى الجاد فى الموهبة الحقيقية، يلزم اكتشافها أولا فى أى سن كانت، لتتعهد بالدعم والتشجيع وبذر الثقة والتدريب، لتتحول الموهبة إلى مهارة تعرف طريق الاحتراف، والدمج مع مواهب أخرى تحتك بها وتنمو بينها، فأصالة الموهوب دوما تفرض نفسها، بطاقة إيجابية عبر الآخرين.
وهذا مختلف تماما عن (موهبة المدرب)، الذى قد يكون الوالد أو المدرس أو الراعى الذى (يصنع) شبه الموهوب، باستثمار الوقت والإمكانيات والمجهود والمظاهر، ليخلق ظاهرة ناجحة بلا روح أو موهبة حقيقية أو إبداع أصيل، فتكون النتيجة ناجحا موجها بخيوط مُحركيه، يحصد مالا وتكريمات بلا أثر.
واقعيا موهبة المُحرك ستفرض وجود الظاهرة، ومع التكرار والاستمرار، سيزجها فى صفة الموهبة ليصدقها الناس ويتفشى التدمير الممنهج وإحباط المواهب الحقيقية.
لذلك؛ فالاستثمار فى صناعة الظاهرة يختلف تماما عن تطوير الموهبة! يشترك الاثنان فى المنتج المستخلص وغرض الاستثمار، فتتوج المصالح والكسب مستثمر الظاهرة فارغة الرسالة والقيمة، ويعنى مطور الموهبة بتطوير المجتمع والفكر والذوق، ليشترك الاثنان فى الأثر السارى فى المجتمع، فإما يكون صالحا أو طالحا أو مشوّها.
القيمة الحقيقية للاستثمار فى تطوير المواهب هى أثرها فى توازن المجتمع ووعيه ونضجه وتأهيله لمواجهة صعاب الحياة، فيتعدد التطوير ليشمل موهوبين الفكر والفن والسياسة والفقه والصناعة وغيرهم.
المنبر الحقيقى لتلاحم المواهب بالوعى الجمعى هو الإعلام (التلفزيون والفضائيات والسوشيال ميديا والإذاعة والصحافة) وطالما انطلق جن الرأى والظهور، من قمقم السوشيال ميديا والفضائيات، فالاستثمار فى المواهب الحقيقية مهدد بالانقراض وليس فقط التقلص.
فآفة الفضاء السيبرانى أنه اختصر (الظهور) البصرى سمعى لأى شخص، ليفرض نفسه بلا أدنى ضوابط أو معايير جودة. ومع ضعف الإعلام الحكومى، فمواجهة أباطرة استثمار مدعين المواهب ومنتحليها، يجعلنا فى قبضة إعلام بلا ضمير، وعليه فمن الطبيعى جدا توقع شعوب بلا وعى.
قد تكون بداية الخيط انتباه جاد لقضية تطوير المواهب، أو تكليف رئاسى لإنقاذ الاعلام الحكومى بكوادر تُستنقذ من آفات البيروقراطية والشلل، والباقى من جيل الرواد أو الوسط. أو بإنقاذ ماسبيرو، بخطة لإحياء وتجديد تراث الإبداع والأصالة والحقائق، بدمجهم فى صور إعلامية عصرية، ترد للناس تدريجيا إحساسهم بمواصفات ومعايير المواهب الحقيقية ومصر قبل الإعلام السيربانى، ليعوا حجم المؤامرة.
الخلاصة أن أى استثمار فى تطوير المواهب لا يستوعب أو يحترف تربيتها وتأثيرها فى الوعى الجمعى، سيُغنّمه كنزا، ويغرّمنا وعيا.. تحاك نهايته بهدوء، ما لم نحاول الإفاقة!
* محامى وكاتب مصرى