لا يصدق القول عن مصداقية التطبيع العربى- الإسرائيلى، كونها لا تخص تسوية الصراع من «الجذور» بين الجانبين، إلا بقدر تعبيرها عن جهود ومساعٍ نابعة من «القمة».. إما بشأن سباقات انتخابية.. أو من أجل انتقال عروش وراثية من جيل لآخر.. أو لدرء ابتزازات إرهابية – إقليمية ودولية – أو تحقيقا لمنافع بعض الشرائح الأوليجاركية الكومبرادورية، وما إلى ذلك من تطلعات متهافتة ليست غير سياسية.. لا تعالج عمق وطبيعة النزاع «الوجودى» التى تحمل طياتها بذور خلافات استراتيجية معقدة، من المفترض أن تطفو على السطح من حين لآخر، بما لا يتوازن مع تلك الخفّة السياسية التى تجرى عليها مسائل التطبيع الممهورة بأختام القمة.. دون تمحيصها بين ومع الجميع على أسس عادلة وشاملة، لن تجدى بدونها تلك الوريقات المتبادلة بين الحكوميين المطبعين بعضهم البعض.. بدءًا من مطلع الثمانينيات (السلام البارد مع مصر) إلى منتصف التسعينيات (اتفاقات مجهضة عن حمل كاذب من أوسلو لوادى عربة)، وإلى ربع قرن تال من جمود عجلة التسوية دون قيد أنملة للأمام، قبل أن ينعكس على حركتها منذ العام 2017 التحالف الانتخابى لنظامين يمينيين شعبويين فيما بين الولايات المتحدة (ترامب.. والصهيونية المسيحية) وبين إسرائيل (نتنياهو.. والأيديولوجية التوراتية)، ذلك فى إطار ابتزازهما المشترك للعالم العربى.. سواء بالنسبة للقدس الشرقية أو الجولان السورية أو لإضمارهما ضم أراض فلسطينية فى غور الأردن، وليس آخراً بالضغط على دول الخليج (من خلال إيران) للقبول بالتطبيع مع إسرائيل.. التى تمانع- للمفارقة- صفقة أسلحة أميركية حديثة للجيش الإماراتى إلا مقابل خطوات من «البنتاجون» لضمان استمرار تفوقها العسكرى؟! ما يفصح عن النوايا المراوغة المبيتة للتطبيع الإسرائيلى مع دول الخليج.. التى تجتاز عروشها مؤخراً متغيرات انتقال السلطة من جيل لآخر، خاصة فى السعودية والكويت وعُمان.. وسط زخم مضاد من حراكات ليبرالية وإسلامية، ناهيك عن اشتراط واشنطن- وفى معيتها تل أبيب- أن يكون شطب السودان من اللائحة الأميركية للدول الداعمة للإرهاب.. ليس إلا مقابل «اتفاق مبدئى» على دور التطبيع العربى للعلاقات مع إسرائيل، تشمل أيضاً حزمة مساعدات مالية أميركية للسودان (7 مليارات دولار)، ضمن تدفقات للمعونة اعتادتها الإدارات الأميركية منذ منتصف السبعينيات (مقابل السلام) لئلا تقدمها للحكومات العربية، إلا من خلال توكيلات لمنشآت فردية ومؤسسات كومبرادورية بعينها.. كى تصبح فيما بعد فى طوع استراتيجيتها (..)، وعلى حساب الأزمات الاقتصادية المتصاعدة للمطالب الشعبية، إلى آخر تلك المساعى لتحقيق مصالح ظرفية مؤقتة.. لا تتصل بمصالح الشعوب العربية ولا بعمق مسائل الصراع بين الجانبين العربى والإسرائيلى.
على صعيد مواز، تتزايد دواعى الشعور بالعزلة لدى القيادة الفلسطينية، كما تشتد الأزمة الاقتصادية فى كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، مما قد يؤدى لتقاربهما.. ومن ثم إلى توجه جديد نحو موجة عنف ضد الإسرائيليين تشى ببوادر انهيار أمنى داخلى، يفاقمه مسار عدائى مشحون بالغضب جراء توقيع اتفاقيات واشنطن بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، ما قد يقترب بصورة علنية وبشكل صريح من تنظيم الإخوان المسلمين العالمى، وبتشجيع من تركيا الساعية لإتمام المصالحة بين منظمتى «فتح» و«حماس» الفلسطينيتين اللتين رغم خلافاتهما وانعدام الثقة بينهما، فإن حصول التصالح بينهما أمر وارد، خاصة بعد اتفاقهما على إجراء انتخابات قريبة متدرجة، سوف تعطى زخماً إضافياً لعمليات عنف متجددة.. سوف يقابلها من الجانب الإسرائيلى إتجاه للتصعيد أكثر تطرفاً، يقوده المعسكر الأيديولوجى لأحزاب اليمين الجارى اصطفافه للحيلولة دون تقديم (تنازلات إضافية) للعرب، إزاء توقعات بضغوط أوروبية وأميركية وروسية محتملة، وربما عربية.. على الحكومة الإسرائيلية.. للتفاوض المباشر مع الفلسطينيين، من المرجح تعادلها مع ضغوط متماثلة على السعودية والكويت، وغيرهما، لدفعهم نحو الاعتراف بإسرائيل، على غرار حالات سابقة من وراء ظهر المشاركة الشعبية، ومن خلال مفاوضات «ثنائية المسار».. تنزلق إليها حكومات عربية، الواحدة تلو الأخرى، للتطبيع مع إسرائيل فى سلام بارد من القمة، منقطع الجذور.