لا أعرف
بدأت اليوم كتابة مقالة تتناول التقييمات المختلفة والمتناقضة للتجربة الناصرية، وتوقفت بعد وصولى إلى حد الـ250 كلمة وقرأت ما أنتجته، وقررت حذفه.
لا أعلم بالضبط ما الذى أحبطنى. ولكننى لن أجازف كثيراً إن قلت إننى نجحت دائمًا فى إخفاء عجزى عن التوصل إلى رأى نهائى حول هذه التجربة. رغم أن التفكير فيها شغلى الشاغل منذ المراهقة ورغم تخصيصى عشرين سنة من عمرى لتحضير رسالة دكتوراة الدولة الفرنسية تتناول مشوار الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر، ثم تخصيصى سنتين لمحاولة لم تتم لكتابة سيرة عبد الناصر.
لست غبيا، وأعرف عنها الكثير، وأستطيع تفنيد أغلب الآراء، وأن أقول كلمة حاسمة فى عدد كبير من الملفات ومن الوقائع المختلف عليها، وهذه القدرات ليست هينة، واكتسابها تطلب مجهودًا وتضحيات، ولكننى عاجز عن تكوين رأى خاص بى يتجاوز العموميات من طراز عبد الناصر عملاق قلَّ وجود مثله وأشرف على النضال الوطنى من أجل الاستقلال وعلى انتقال مصر من حداثة مبتورة جزئية إلى حداثة أخرى أفضلها شخصيا لأسباب موضوعية ولكنها ناقصة. هى ناقصة لأسباب كثيرة متنوعة متعددة متناقضة، ولكننى أختزلها فى الآتى… الحداثة ليست فقط الخروج من دائرة الفقر والمرض والجهل، الحداثة هى العقل فى خدمة الحرية، والتعقل فى إدارة القيود الضرورية لقيام حياة متحضرة، إدارة تمنع تحول تلك القيود إلى قهر قاتل للسعادة وللمبادرات وللفكر وللقدرة على المصارحة.
أود أن أوضح أننى لست من المعجبين بأحوال المجتمعات الغربية. ولست من أنصار النظريات المنددة بكل سلطة، واضحة كانت أم مستترة، مادية كانت أم رمزية، دولتية كانت أم مجتمعية، ولست من أنصار تحقير الماضى ورفض الموروث، ولست من عبيد صنم الثورة أو صنمه المضاد صنم الاستقرار… إلخ. وأؤمن بضرورة إقامة دولة قوية تجسد إرادتنا وتحمى حدودنا وسلامتنا وقيمنا. مشكلتى هى مع ثقافتى التشنج الخائف والخوف المتشنج. مشكلتى مع عدم المرونة ومع التصلب الهستيرى.
نعود تدريجيا إلى صلب حديثى. نجاح عملية التحديث كما أفهمها تفترض “المعرفة” و”الفكر” (وطبعا العمل الدءوب) وعندما أقول المعرفة لا أقصد فقط قواعد البيانات والإحصائيات والدراسات والتحليلات ووجود متخصصين وخبراء على أعلى مستوى. قطعا هذا ضرورى. وقطعا قطعنا شوطا ممتازا فى هذا المشوار. وقطعا أمامنا الكثير.
الفكر بالنسبة لى وفى إطار هذه المقالة هو القدرة على إدارة حوار عاقل حول قضايا جوهرية لا تسعفنا فيه الإحصائيات ولا النظريات الجاهزة. ولو كانت عميقة، وعلينا أن ندرك أن قضايا كثيرة تحتاج إلى المعرفة والفكر فى آن واحد. لنبقى حاليا فى إطار مشكلتى حول تقييم الناصرية. يحصر الكثيرون القضية فى تقييم النكسة وتحديد المسئولية عنها. هناك من يذهب إلى أن السلطوية هى المسئولة… ولكنهم يتناسون أن فرنسا الديمقراطية عرفت هزيمة أبشع، ومن يرى أن ناصرا أو عامرا أو الإثنين هما المسئولان. وهناك من يرى أن النكسة “كشفت حقيقة نظام”، ومن يراها حادثة مؤلمة، ولكنها فى النهاية ثانوية.
لو سمح لهامشى أن يتقدم باقتراح… أرى أنه آن الأوان لطرح أسئلة أخرى لا تطرد الأسئلة التقليدية. أتصور أنه من الضرورى طرح سؤال ثقافة الخوف والترهيب، وسؤال التحديث الفوقى الذى تقوده الدولة، وهو الطريق الذى سلكته مصر منذ أيام محمد على إلى يومنا هذا مرورًا طبعًا بعصر عبد الناصر… مع فوارق مهمة بين التجارب. على عجالة نقول إن أسباب اختيار هذا الطريق هى غياب فئة الرأسماليين التى نهضت بأوروبا، مما أجبر الدولة على الاضطلاع بهذه المهمة، وجسامة التهديدات الخارجية التى دفعت الدولة إلى السعى لتأمين الجبهة الداخلية وإحكام قبضتها عليها، ولكن لهذا الخيار ثمناً.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية