عودة إلى جدية الحياة
يعود بنا أستاذنا محمد عبد الله محمد إلى الإحساس الواجب بجدية الحياة، لأنها مع الاستعداد وقوة الموهبة هى التى تدفع الناس دفعا شديداً إلى طلب الحقيقة وإلى إرشاد الغير إليها.
على أن حديث الناس عن أهمية الحياة، معظمه نظرى مؤقت.. يوازيه أو يسببه أننا فى الواقع لا نحفل كثيرا بحياتنا ولا نشعر بقيمة أيام العمر إلاًّ حينما يشرف على الانصرام.. ذلك لأن اعتيادنا على الحياة يلغى إحساسنا بخطرها، بل يلغى إحساسنا بالوقت فى فترات الشباب والصحة وإقبال الدنيا.
إن من مهام الدين الأساسية، نشر الجد فى الفراغات الموجودة فى حياة الناس.. هذه الفراغات التى اعتادوا أن يشغلوها بالصغائر والتفاهات.. وللأسف لم تعالج الحضارة الحالية ذلك حين أضعفت مكانة الدين، بل زادت هذه الحضارة ـ المادية ـ أسباب ووسائل العبث وإضاعة العمر ومقبرة الوقت، وملأت حياة الناس بسخف لا يستطيعون معه أن يلجئوا إلى أعتاب الله !
ومع أن التعليم بطبيعته عملية تحصيل يجب أن تقترن بالجد والجدية، إلا أن الصلة بين التعليم وبين الجد والإحساس بالجانب الجاد فى الحياة بعامة ، هذه الصلة باهتة أو غير واضحة، بحيث لا يوجد تناسب طردى مضمون بين الإحاطة بالمعلومات والمعارف والمهارات، وبين الإحساس بالجد والالتزام به.. بل قد تؤدى الأطماع أو الطموحات المتعجلة غير المعنية بالأسباب ـ إلى ضعف هذا الإحساس بالجانب الجاد فى الحياة.
إن العوامل المؤثرة فى حياة البشر عوامل لا تحصدها الكتب وبرامج التعليم.. ومعظم هذه الجوانب محجوب لا تلتفت إليه الأنظار عادة.. ويؤثر ذلك على اختيارات آدمية غير قابلة للتعليل وإن كنا نحاول تبريرها بعد حصولها..
يريد محمد عبدالله محمد أن يقول إن المغالاة فى كفاية التعليم بذاته لمواجهة مشكلات الحياة العامة والخاصة، مغالاة ينقصها الجد شأنها شأن المغالاة فى أى شىء آخر.. وهذا برغم وضوحه، لا تدركه الحضارة المادية ـ الحالية، وتنصرف عنه بالعدد والتصنيف والتوصيف الخارجى.
ربما كان مطلوبا أن نلاحظ أن التعليم العام يغذى الحماقات أحيانا دون أن يدرى، حين يعطى الفرص ـ بمقاييسه الظاهرية أو الشكلية ـ إلى المحرومين من المواهب، ويعطيهم بالتالى فرصاً للصدارة والرياسة والتسلط، على حساب أصحاب المواهب الحقيقية !
إن التعليم وإن طال أو كثر، لا يمنح بذاته دائما الإحساس بالجدية، ولا يمنع من العامية ونزقها.. لأن العامية ليست قلة تعليم، وإنما هى كثافة طبع ونقص فى الشفافية الطبيعية.. هذه العامية هى العيش فى الجسد والأرض، وعبادة الجسد والأرض واليأس من كل ما عدا الجسد والأرض !
والجد اقتناع وإخلاص عميقان فى الروح.. وهو غالبا ما يضيق بالمظاهر مخافة أن تأخذ هذه المظاهر مكانه وتقطع طريقه.. والإخلاص هو الذى ينظف أيدينا حين نمدها جادين إلى الله، ويجملها ويطهرها من كل قبح وقذارة.. ومهما بلغت شقوة الآدمى، فإنه يستطيع أن يمد يده إلى ربه عز وجل.. بعمل مخلص تسمح له به ظروفه، حتى وإن لم يكن مما ينضوى فى الصور والأشكال والأنماط.. فلا تلازم بين الجدية وبين النمطية.. ولا تضارب إطلاقا بين الجد وبين السرور.. فليس الجد جهامة أو عبوساً، وإنما هو شعور بالمسئولية وقيام بها.. والقيام بالواجب جالب للسرور وحائل يدفع بعيدا غيوم الكآبة والعبوس !
إن انحسار الجد من أية قيمة أو مصلحة من قيم ومصالح الحياة المشتركة، أمارة سقوطها وزوال اعتبارها وقلة جدواها.. وشعور الإنسان بالجانب الجاد فى حياته وبجدية الحياة ـ هو فى جوهره شعور الإنسان بقيمته، وهذا الشعور بالقيمة هو الدور الموقظ والمنبه الذى يسلم به للإنسان روحه وعقله، وينقذه من الوجود العرضى الوقتى الزائل، ليصله بالحياة فى معناها الدائم الباقى.
www. ragai2009.com