مع حلول ذكرى ثورة يوليو اشتعلت مواقع الاتصال الاجتماعى مرة أخرى واحتدم التراشق بين مؤيدى ومعارضى حكم جمال عبد الناصر ودولة يوليو. وسمعنا نفس الحجج ونفس المعايرة وشاهدنا نفس العصبية والتعصب، هناك طبعا قضايا تظهر فجأة ثم تختفى. فى الثمانينيات كان الجميع يتعارك حول وقائع لم نعد نثيرها الآن إلا على الهامش… هل كان السادات فى السينما؟ هل كان عبد الناصر وعامر يلبسان لبسا مدنيا أم لبسا عسكريا؟ هل لعبت المخابرات المركزية دورا فى الإطاحة بالملك؟ ما هى علاقة الضباط الأحرار بالإخوان؟ هل كانت الإجراءات ضد محمد نجيب مبررة؟ ما حقيقة حادث المنشية أى محاولة اغتيال ناصر من قبل الإخوان؟ كيف مات عبد الحكيم عامر؟ هل تم اغتيال الدكتور المفتي؟ باختصار كان هناك جدل له فوائد حول الوقائع. ماذا حدث بالضبط؟
الآن يبدو لى أن هذا الجدل بالذات تراجع، لأسباب منها وفاة الشهود ومنها انهيار مصداقية الإخوان المسلمين أبرز أعداء يوليو. وبقى الجدل حول «معنى» ثورة يوليو وتقييمها وحصادها وحيدا على الساحة إلى جانب المقارنة الأزلية بين ناصر والسادات.
لا أتصور طبعا أن ما سأكتبه سيقنع الجميع، ولكننى خصصت عشرين سنة من عمرى لدراسة تاريخ مصر بين عامى 45 و70 وطبعا هذا لا يعنى أننى معصوم من الخطأ وقادر على مغالبة أهوائى. ولكنه يعنى أننى حرصت على الاستماع إلى كل الفاعلين وقراءة أكبر عدد من المراجع. ولست الوحيد الذى خصص وقتا كبيرا لفهم وتحليل ونقد التجربة، ومن واجبى لفت نظر القارئ الكريم إلى الأهمية البالغة لأعمال الدكتور شريف يونس، لا سيما كتاباه… «نداء الشعب» و«البحث عن الخلاص».
التاريخ حمّال أوجه ويتسع لمقاربات مختلفة، على سبيل المثال لم أهتم كثيرا بظاهرة صوت العرب على عكس ما فعله الدكتور شريف الذى قدّر أنها محورية إن شئنا فهم النظام الناصري، وكان محقا فى هذا وكنت مخطئا، إلا أننى بذلت جهدا أظنه أكبر لفهم مدركات ضباط الحركة. ولمزيد من الإيضاح كان رأيى أن تحليلات النخبة أعمق وأكثر واقعية من خطاب صوت العرب، وكان رأى شريف أن خطاب صوت العرب وعناصره شكلوا وعى الجماهير وآمالها فى مصر وغيرها، ولعب دورا جوهريا فى تحديد ما يمكن عمله وما لا يمكن عمله وفرضوا إيقاعا معينا. باختصار – أتمنى ألا أكون مجرفا لتحليل الصديق الغالى- رأى شريف أن الخطاب أطّر حقلا من الممكنات والممنوعات وحدد طريقا وتصورات… بينما كان همّى منكبّا على إثبات أن ناصر وهيكل وغيرهما كانوا أعمق فهما مما قيل لحقائق الوطن والإقليم والعالم.
هذه التعددية المحمودة لا تعنى أنه لا يمكن حسم بعض القضايا وأنه يمكن قبول أى شطحة مهما كانت شعبيتها. نبدأ بمثال هام وهو الجدل حول تقييم أعداء يوليو للنظام الملكى، يرى تيار كاره للثورة أن «الحياة كانت حلوة أيام الملك» وأن القاهرة كانت من أجمل مدن العالم والحياة الثقافية راقية وصاخبة وخلّاقة وأن التفاعل بين الشعب المصرى بمختلف مكوناته والجاليات الأجنبية كان رائعا ومثمرا رغم استمرار نوع من التوتر بين أولاد البلد والآخرين، بينما يرى تياران آخران يعاديان ثورة يوليو أن حكم الملك كان فاسدا مريعا وأن أحوال المجتمع كانت تسير بسرعة مهولة من السيئ جدا للأسوأ، وهذا التدهور المستمر منذ 1945 كان خالقا لمقدمات ثورة شعبية عظمى على غرار الثورتين الفرنسية أو البلشفية. وباختصار يرون فى «حركة الضباط» حركة إصلاحية سلطوية أجهضت حراكا ثوريا شعبيا كانت بوادره جلية واضحة وقتلت السياسة وطردت نظاما فاسدا وجاءت بنظام مساوئه كثيرة. سنناقش هذه المقولات الأسبوع المقبل.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية