وأس الانحراف هو ترك الاتجاه إلى الله، والاتجاه إلى الذات ومطالب الذات التى تنشد رضاء أشخاص توصلاً لتحقيق المطامع والمطامح والرغاب، هنالك تنحرف البوصلة من الاتجاه إلى الله، إلى الاتجاه إلى البشر، ومن العبودية لله إلى عبودية رخيصة لبعض البشر !!!
ومن يتأمل فى سيرة رسول القرآن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرف أن تاريخ حياته هو مفتاح كنوز سنته.. حياته عليه الصلاة والسلام حياة روح لم تفارق قط الاتجاه إلى الله لحظة فى عام أو خاص من أموره الشخصية.. ولم تنس قط عبوديتها لله عز وجل، ولم تحاول قط ـ فعلاً أو قولاً، صراحة أو ضمنًا ـ لم تحاول حمل أحد على نسيان عبوديتها ـ عبودية النبى ـ لله عز وجل، أو عدم تذكر عبوديتها ـ عبودية النبى ـ له سبحانه.. فالمسلمون جميعًا من نيف وألف وأربعمائة سنة وإلى آخر الدهر، يقرنون عبوديته برسالته، فيرددون صباح مساء، سرًا وعلانية، أن محمدًا عبده ورسوله.
كل ذلك مع أن حياته عليه الصلاة والسلام ـ حياة إنسان حقيقى من كل وجه.. إنسان مقتنع ببشريته أتم الاقتناع، لا يتنصل منها ولا يتعالى عليها، بل راضٍ عنها كل الرضا، قابل لها قبولاً خاليًا من أى تحفظ أو تصنع أو تستر أو مداراة.. فقد اختاره الله تعالى نبيًّا رسولاً للناس، لأنه إنسان حقيقة وفعلاً.. من دلائل نبوته أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق.
إن سنة النبى المصطفى عليه السلام ـ هى أولاً وأساسًا : حياته فى الله.. هى ذلك التيار الواعى المطرد الجريان على حد التعبير الجميل للأستاذ الجليل محمد عبد الله محمد.. هذا التيار الموجه أصليًّا إلى هداية الإنسان.. أى إنسان وكل إنسان ـ فى اتجاه الله عز وجل.. ذلك التيار جرى ظاهريًّا ـ للضرورة ـ فى محيطه الجغرافى التاريخى للنبى صلى الله عليه وسلم، أى إلى من قبلوه وصدقوه وآمنوا برسالته وإلى من رفضوه وأنكروه وقاوموه فى ذلك الجزء (الجغرافى) من العالم خلال الجزء (التاريخى) الذى عاش فيه عليه الصلاة والسلام حياته على الأرض.. فى ذلك التيار يجد المسلم خُلق النبى صلى الله عليه وسلم ومعالم أخلاقه الشريفة مرتسمة بوضوح شديد فى أحداث ذلك المحيط التاريخى الجغرافى، حاملة هذه المعالم النيرة فى السنة المطهرة.
فلا يفهم السنة من لا يلتفت إلى شدة إحساسه صلى الله عليه وسلم ـ بخطر تسرب المال إلى حيث روح الإنسان، وإلى حيث العلاقات الإنسانية العميقة، أو من لا يلتفت إلى شدة عنايته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفهم الناس كأرواح وأنفس وأبدان، لا كمجردات نظرية أو نوعية، ومخاطبته عليه الصلاة والسلام لكل آدمى من أرضية هذا الفهم الفعلى الواقعى، وليس من علياء السلطة أو الجاه أو النظر الفقهى أو الفكرى، مخاطبةً مفعمة بما يقنع الآدمى أنه عليه السلام يفهمه تمام الفهم.
كذلك لا يفهم السنة من ينسى نفوره الهائل ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ من الرخاوة والكسل والبطء والعجز والذلة والجبن.. ثم لا يفهم السنة من يفوته فهم المصطفى الكامل لطبيعة محيطه، وانقسام ذلك المحيط إلى وحدات منفصلة مختلفة الأعراق واللهجات، بل واللغات، يقتات أغلبها على غزو بعضها بعضًا، ويتشبث كل منها بماضيه وعداواته وثاراته ومفاخره.. وكلها مبنية على الغلبة والقهر.
نعم لا يفهم السنة من تفوته سيادة الأناة والصبر وسعة النظر وإيثار التوفيق والمصالحة فى الحلول النبوية لمشاكل ذلك المحيط المتقلب العنيف، ومن يفوته ملاحظة اختيار المصطفى دائمًا لأكثر الحلول جمعًا للشمل، ومراعاة لظروف الناس، وأنسبها إعانة لهم على زمانهم. لا يفهم السنة من يفوته مزج الفضائل والمبادئ واستعمال الرسول لها معًا كمجاميع يلطف بعضها شدة بعض، ويكفل تساندها بلوغ حل مقنع للإنسان العادى. لا يجد المتأمل حلاً للمصطفى من الحلول يمكن أن يوصف بأنه نظرى أو حرفى أو جامد يصدم الفطرة. ثم لا يفهم السنة من يفوته معنى تجرده عليه الصلاة والسلام ـ سرًا وعلانية من كل غرض أو اتجاه شخصى، وكل ما يربط حياته بحياة الملوك والسلاطين، وكل ما يسمح بأن يوجد فى أمته من يتميز بالرفاهية أو السؤدد.
إن نداء الله فى الفطرة أعمق فى نفس الآدمى وأبعد غورًا من كل نداء آخر، غريزى أو كسبى، ولذا كان صوت هذا النداء الإلهى الآتى من أعمق الأعماق « هامسًا خافتًا »، يسمعه الإنسان حين يخلو لنفسه ويتأملها بعيدًا عن الضوضاء والصخب والشغب.
www. ragai2009.com