لعقود طويلة احتفظت أمريكا بالريادة والتطوير فى علم الإدارة والموارد البشرية والتدريب وخلق الوظائف ومسمياتها وتوصيفها، وإنتاج النظريات العلمية والبرامج التدريبية ووضع خارطة الطريق لسياسات توظيف العاملين وتطوير ذواتهم، ولعقود طويلة ظلت أمريكا «بلد شهادات»، لتتحكم درجة وسمعة ومستوى المدرسة أو الجامعة فى منح خريجيها شهادات، هى جواز سفرهم للوظيفة الخاصة أو العامة أو الحكومية، للتخديم على رؤية الدولة فى معايير التوظيف.
نظراً لتغلغل العلاقات والمصالح الأمريكية فى كوكب الأرض، سار على دربها ومن يرغب فى اللحاق بركبها أغلب دول العالم، ونتج عن ذلك تأسيس «صناعة الشهادات»، بمنظومة متكاملة تأخذ «الشهادة» فيها مفتاحًا للنجاح والقيمة. فسادت وتوسعت مدارس وجامعات عالمية وأقليمية، وبزغت أخرى متطفلة على العلم والثقافة والمعرفة ولكنها مستوفية شروط التراخيص، لتقدم منتج «الشهادة» لمن يقدر ثمنها! وفى المقابل كانت دولة الشهادات هى السبب فى التراجع الوظيفى لأى خبرات أو مهارات أو مواهب حقيقية، لم تحصل عليها أو تستوف ثمنها، وحرمان العديد من الوظائف والأعمال من الخبرات الحقيقية والمواهب الاصيلة لمجرد أن أصحابها لا يحوزون شهادات جامعية أو عليا.
ولكن مرة أخرى وكأحد آثار جائحة كورونا على سوق العمل والوظائف الامريكية، تقود أمريكا دفة تطوير علم الموارد البشرية، ويوقع الرئيس الامريكى ترامب أمرًا تنفيذيا، يعتمد الأولوية والتركيز فى التوظيف الحكومى على المهارات، بدلًا من الشهادات الجامعية! بما سيسمح بتطوير رسمى للمنظومة الوظيفية الحكومية بناء على الخبرات والمهارات والمواهب التى سيضيفها الموظفين للوظيفة، وطبقًا لتعبير ترامب (نريد أن تكون الحكومة الفيدرالية قائمة على المهارات، ولن يكون التركيز بعد الآن على أى جامعة درست بها ولكن ستكون المهارة والموهبة هى الدافع لتوظيفك). سيتم تحديث التوظيف الفيدرالى للعثور على مرشحين يتمتعون بالكفاءة والمعرفة ذات الصلة، بدلًا من توظيفهم لمجرد شهاداتهم. هذا التوجه الحكومى لن يلغى الدرجة العلمية للتوظيف ولن تتراجع أهميتها، ولكنه عهداً جديداً لأصحاب المواهب والكفاءات والخبرة لنيل عدالة التوظيف فى عقود مقبلة، ستختفى فيها وظائف حالية بأكملها ويعاد اكتشاف أخرى، ليتم تهجين مهن قديمة بمهارات مستحدثة، بمواصفات شخصية، لخلق وظائف أو تطوير قدرات جديدة لخدمة المجتمع وتعيين مصادر جديدة للرزق.
وكما هى العادة فى التأسى بالمُطور، أتوقع أن تنتقل التجربة الترامبية فى التوظيف بالمهارات والمواهب للقطاع الخاص والمشترك الأمريكى (قامت IBM بالفعل، العام الماضى، بتعديل سياسات توظيفها لتعيين %15 من قوتها على أساس المهارة بدلاً من المستوى التعليمي)، وكالعادة أيضًا ستنطلق النظريات والكتب وبرامج التدريب والتوعية الإعلامية لتأسيس صناعة جديدة مطورة لتأصيل المهارات والمواهب، للخروج بمستوى جاد تعتمده الحكومة الفيدرالية لمفهوم ومعيار المهارة والموهبة فى شغل الوظائف الحكومية.
وكالمتبع، ستمتد وتتطور موجة التوظيف بالمهارات والمواهب إلى خارج أمريكا تدريجيا، حتى تصل للمنطقة العربية، وتأخذ دورتها فى (الاستثمار) حتى تتبناها الحكومات، غير أن تراجع «دولة الشهادات أمريكيا»، سيمنح مؤسسات ومعاهد وأكاديميات التدريب المهنى والمهاري، الحالية، ركوب الموجة وميزة تقدمية لخلافة هذه الدولة، وقد تتكرر مشاكل «شهادات مهارة ومواهب للبيع» ونتائج موظفين حفظة دون فهم وأبواب الواسطة وكهنة المحسوبية والأدعياء.
العمل والتوظيف بالمهارة والموهبة سيفتح ابواب التيسير والتعسير والتغييب أيضًا! فبدون ضوابط ومعايير وانضباط ومرجعيات لأصحاب المهارة والمواهب، قد تكون التجربة حرجة، مع شعوب لا تقرأ، وثقافة شبابها من الفضائيات والسوشيال ميديا والخبرات الشخصية. سيكون مفيداً جدًا فى هذا التحول، إن تواصل الحكومات الإقليمية مع التجربة الأمريكية عن قرب، لمعاينة مفهوم الحكومة الفيدرالية لأولوية المهارة والموهبة فى التوظيف، لتحديد القطاعات القابلة لذلك، نوعيات الوظائف، معايير التقييم والاختيار، موانع التعيين ومحاذيره، تنسيق العلاقة والتعامل فى الهيكل الوظيفى بين حملة الشهادات وأهل المهارة والموهبة، وغيرها من الموضوعات التى ستكون الإطار العام المستقبلى لتفعيل هذا التوجه مصريا وعربيا، لضخ دماء جديدة مبدعة وموهوبة وماهرة عن حق فى بيئة الأعمال.
بروتوكول ترامب للتوظيف بالمهارة والموهبة، سيشكل خارطة طريق جديدة، لا أعتقد ستجدى معها قوانين وآليات وقواعد التدريب الحالية أو مؤسساتها وشركاتها. خاصة وأن هناك وظائف معينة حتماً تعين بشهادات مثل الطب والقانون والهندسة والعلوم الطبيعية وغيرها، ولكن فتح باب المهارة والموهبة سيكون ضابطًا جديدًا فى وصفهم الوظيفي، وسيخلق مهناً جديدة فى اكتشاف وتدريب المحامى الموهوب أو الجراح الماهر أو المهندس المبدع ..إلخ.
أتوقع أن تشهد سوق التعليم والتدريب والموارد البشرية طفرة تدريجية فى تعريف (الشيء) و(الشيء لزوم الشيء) فى سوق العمل والتوظيف والمعايير! فتداعيات كورونا أثرت وستؤثر على العديد من المبادئ التى حولها الاستخدام منذ سنين إلى مُسلمات، ونسينا أنها مبادئ قابلة للبدء من جديد، لتتكون مبادئ اجدد تصلح للمستجد.
الإدارة والتوظيف بالمهارة والموهبة تمثل عهدًا جديدًا سيفتح أبواب رزق لا تنتهي، محاورها احتياجات المجتمع، الادارات المديرة للاحتياجات، الهيكل الوظيفى لهذه الإدارات، موظفى هذه الإدارات، مواصفات ومعايير ودرجات مهارة وموهبة هؤلاء الموظفين، تدريب وتطوير وتمتين هؤلاء الموظفين للتوظيف بهذه الإدارات لسد احتياجات المجتمع، طبقا لقوانين ولوائح تنظيم فعل ذلك ومخالفته.
نحتاج إلى أبحاث، تطوير نظريات، بلورة رؤى، تصميم ضوابط، تحديد مجالات وقطاعات، تعريف وتحديد وتقييم الموهبة، مراجعة سياسات وهياكل توظيف، مواصفات الجهات المؤتمنة على اكتشاف وتطوير وإجازة المواهب والمهارات ..إلخ، آليات وضمانات منع الواسطة والمحسوبية والتسيب. نحن على أعتاب ثورة علمية، إدارية، وظيفية جديدة، وجدير بمصر فى مرحلة إعادة بنائها أن تمنح هذا الملف خصوصية يدعمها فى حربها للبقاء بتميز.
- محامى وكاتب مصرى