كيف نحول المعرفة الباطنية للمتقاعدين إلى قيمة تقنية فى صنع المستقبل؟ (3-3)
فى تقديرى أن صناعة المستقبل هى التطور الطبيعى لمعرفة الماضى، ولنصل لمستقبل قابل للتمكين، نحتاج إلى أن ندير الماضى بمنظومة فهم تدريجى لأهمية مشكلة ضعف أو اختفاء أو موت المعرفة الباطنية لأفراد الكيان وما تحتويه أدمغتهم من أفكار وأسباب وحلول وتبريرات، تشكل رأس المال الفكرى/ المعرفى الحقيقى للكيان، أو الوجه الآخر للقمر أو الواقع الظاهر له.
وفيما يلى تصور شخصى مبدئى لحل تدريجى لهذه المشكلة:
1 – على مستوى الموجودين والمستمرين فى العمل، يقترح اعتبار جاد من الكيان لترويض ثقافته، لقبول الخلاف والاختلاف مع منسوبيه بضوابط محترفة وآداب مناقشة ملتزمة والسماح بتفعيل فكرة Time Out التى تمنح كل المشاركين فى الموضوع حرية الرأى والمعارضة وقت دراسة المشروع/ المشكلة وتصميم حلولها.
-2 تأسيس صندوق الأفكار وحلول خارج الصندوق للمشروعات والمشاكل والأزمات الجارية (بغض النظر عن تخصص أو إدارة مقدم الرأي)، مع التزام الكيان بدراستها ومناقشتها وجواز الأخذ بها إن ثبتت وجاهته.
-3 تأسيس (إدارة الحقيقة)، فداخل تنفيذ كل رأى أو قرار لإدارة الكيان، هناك جزء من الحقيقة فى بطن المعرفة الباطنية للمُنفذ، قد تكون هى الصحيحة أو فى مصلحة العمل، أو تكون خطأ لكن تنطوى على جانب موضوعى أو معلومة مجهولة، ولكن يُعدَل عنها لأى سبب! هذه الإدارة تسمح بجمع ومناقشة وتوثيق هذه الحقائق من وجهة نظر مصدرها بشرط إثباته الموضوعى لها، رغم الظواهر المعاكسة، دون أى عقوبة على ذكره لها.
4 ـ تصميم برنامج نظم خبيرة/ ذكاء اصطناعى، يُغذَّى بالتحفظات، الرفض، الحلول، الأفكار، الأسباب التى أثبتها الأفراد، وعدل عنها الكيان لأى سبب! لتكوين قاعدة خبيرة من (ماذا لو) لربطها على التوازى بمعلومات ما يتم تنفيذه واقعيًّا طبقًا لرأى الإدارة أو المعارضين، بحيث يقوم النظام بالتحليل والتفسير والاستنتاج وتوقع النتائج، وتوزيع التوصيات وردّها إلى ما يتشابه معها/ يتعلق بها/ مترتب عليها، مما يتم تنفيذه واقعيًّا.
تضمن هذه الخطوات الأربع بداية سيطرة دورية للكيان على المعرفة الباطنية للأفراد المستمرين فى العمل، من خلال تفعيل حقيقى لفن الاستماع والمناقشة، بما يعظم انتماء الفرد للكيان لمجرد سماع واعتبار رأيه، فينتقل من مجرد مُنفذ قد يُلقى بالمسؤلية على غيره لاحقًا، إلى مشارك فى قاعدة المعرفة التى يطلع عليها الكيان وتعتبره فى قرارها. هذه الخطوات تؤمّن للكيان تأمين وإدارة معرفة العمالة المستمرة، حتى تحقق سبب انتهائها بالاستقالة/ التقاعد (إذ تخرج الوفاة عن الظرف الاختيارى لانتهاء العلاقة).
فإذا ما جاء الانتهاء بالاستقالة أو التقاعد، تأتى الخطوة الخامسة؛ وهى دراسة وانتقاء الكيان لفئات/ طبقات معينة مؤثرة من منسوبيه، لتصميم وثيقة محترفة لاستبيان/ أسئلة تستخلص آراءهم من بطن معرفتهم الباطنية فى محاور محددة مثل؛ لماذا سيفشل مشروع كذا؟ متى يمكن للكيان تجنب تدهور الإنتاج؟ ماذا افتقدت فى موقعك آخِر سنتين؟ لو أتيحت لك رئاسة قسمك، ما أفضل قرارات تتخذها لإنجاحه؟ ما حقيقة خلفيات مشكلة كذا؟ كيف كنت ترى صورة الكيان وأنت فيه؟ وكيف ستراه وأنت خارجه؟ لماذا سترفض العودة للكيان إن عُرض عليك ذلك؟ ما أضعف حلقة فى سلسلة عدم تحقيق الكيان لأهدافه؟ ماذا ينقص صناعة القرار فى الكيان؟ ما سبب شيوع المسئولية فى مشروع كذا؟.. إلخ.
أقترح قيام الكيان بعمل هذا الاستخلاص- ضمن منظومة النظم الخبيرة- من خلال تقنية Voice Recognation أو تحويل الصوت إلى نص، وNatural Language Processing – NLP أى معالجة اللغات الطبيعية وتقنية (NLP) /Neuro-linguistic programmingـ البرمجة اللغوية العصبية، كنهج نفسى يتضمن تحليل الاستراتيجيات التى يستخدمها الأشخاص الناجحون وتطبيقها للوصول إلى أهداف موضوعية، بما يسمح بحوار ودّى ناضج يتيح للسائل قيادة الحوار بمنهجية موضوعية، تسمح بأن تتحول أقوال المتقاعد المسئول لـ(معلومات) تفاعلية وليست مجرد بيانات مجردة أو شائعات أو حلول انتقامية أو تصفية حسابات، ومن ثم يتم بعدها إيداعها فى برنامج النظم الخبيرة لعمل تحليل وتفسير وردّ وربط بالمعلومات الأخرى ذات الصلة، وتجريدها من شخصية القائل، ليخرج النظام باستنتاجات وتوقعات تسمح للكيان بتحديث خططه وسياساته واستراتيجياته أو استدراك قرارات جارية، نتيجة إدارة النظم الخبيرة للمعرفة الباطنية المميزة للمتقاعدين والمستقيلين.
بطبيعة الحال تفترض هذه المنظومة توفر مستويات مختلفة للسرية وصلاحيات مرور داخل كل كيان طبقًا لطبيعته ونشاطه وأفراده. بل يجوز أن تعزل هذه المستويات عن بعضها مثل مستوى المعلومات المستقاة من المتقاعد/ ثم مستوى نتائج تحليل وربط وتوقعات النظم الخبيرة/ ثم مستوى توصيات أو نتائج هذه النظم فى اتخاذ القرارات أو رسم الخطط.
(5)
تأتى بعد الخطوات السابقة، الخطوة السادسة المؤثرة، بتكوين (مجلس المستشارين)
من المتقاعدين المميزين فقط بالكيان، بعضوية لمدة من 5 لـ10 سنوات بعد التقاعد، طبقًا لدرجتهم الوظيفية أو تقارير نهاية خدمتهم أو إنجازاتهم فى العمل، مع تصنيفهم طبقًا لخبراتهم، بما يسمح للكيان باعتصار معلوماتهم الباطنية فى صورة (إدارة الظل)، من خلال مشاورتهم دوريًّا فى موضوعات أو مشروعات أو مشاكل ذات تاريخ أو حالات تعرضوا لها أو وضعهم لدراسات، وإدراج توصياتهم فى “النظم الخبيرة” لتودَع فى موضعها من قاعدة المعرفة،
وتدريجيًّا تتحول قاعدة معرفة الكيان لترسانة فكرية تستعد للمستقبل بأسلحة مطورة من ماضى حكيم. قد لا يكون مجلس المستشارين بأجر أو بمقابل مادى ضخم، (ولكن بمزايا تتناسب مع حجم فائدة الكيان منهم) لأن استمرار المتقاعد فى رابطة مع الكيان يجعله متماسكًا نفسيًّا واجتماعيًّا وحاضرًا ذهنيًّا وقادرًا على استحضار مزيد من المعلومات والخبرات التى تتوالى فى التطوير والظهور، بما يسمح للكيان بزخم من الآراء المبنية على حكمة الخبرة وليس المصلحة أو التوازنات أو ضغط العمل.
مجلس المستشارين المتقاعدين مشروع متدرج الطبقات والأنواع ولكل أنواع الكيانات، ويمتص كمًّا من الخبرات الذهبية للعديد ممن اعتصرهم العمل وخرجت من أصابعهم الحلول وتراصّت فى عقولهم معرفة خلفيات وأسباب وحقائق الموضوعات، التى قضى عليها سن التقاعد وأحالهم إلى حالة اجتماعية حرجة، قد تصل إلى وصفهم بالعالة المالية أو الصحية أو الاجتماعية، بما يؤثر على قدراتهم النفسية والذهنية، وتعطل اكتشاف كنوز من المعلومات والخبرات والمعارف الفنية المهدرة.
أتوقع أن يعيد العالم حساباته بعد أزمة كورونا فى جميع مجالات الحياة! ودون أنظمة خبيرة تستهدف رصد وتقييم وتحويل المعرفة الباطنية إلى معلومات ديناميكية فى معرفة كيانات العالم، لن نعرف الحقيقة المجردة! وإلا كيف سنصنع لنا مستقبلًا جديدًا لا يتعرض لتكرار تاريخ نحاول أن نتشافى منه الآن فى أبريل 2020؟
* محامى وكاتب مصرى