أذكر عندما زرت ليبيا عام 2000 لقائى مع صديقى سفيرها فى ترينداد، وطرحت عليه فكرة مشروع (توثيق ذاكرة الكبار)، وأعطيته مثالًا بقضية ليبيا فى لوكيربي! وأنه مع الزمن والأحداث متوقع أن تختفى الحقيقة من صدور الرجال، وهى أعزّ مما فى الورق، خاصة أن هناك العديد من القضايا، والمشاكل، والحقائق، والأسرار، والملفات والمشروعات فى الذاكرة الليبية، التى لو اختفت أو اندثرت لأى سبب، فلن يجد الجيل القادم (حسب نوع الكيان) ما يدعمه أو يسلحه فى مواجهة الآخر! كان من المفترض أن يبدأ هذا المشروع مع أستاذنا إبراهيم الزيتونى المحامى الليبى الكبير، لكن لم تسعفنا الأقدار وقتها.
بعد 11 سنة من فكرتى، وقعت الأحداث الليبية فى أعقاب بداية الربيع العربى، إلى أن قُتل الرئيس القذافى فى أكتوبر 2011 وبدأت ليبيا عهدًا جديدًا دون قاعدة معرفية للحقيقة التى تفرَّق دمها بين القبائل! ورغم الكيانات المؤسسية المنتشرة فى ليبيا الغالية، فإن هناك زخمًا لا يُحصى من المعلومات والعلاقات والروابط والحقائق والموضوعات والمشاكل والخلفيات والأرقام والمواقع والتحالفات والتأثيرات، التى ستبقى فى جفن الزمن وحُرمت منها ليبيا والأجيال القادمة.
استدعت هذه الذكرى فى خاطرى ملاحظة مهمة حول ما يُعرَف بـ”المعرفة الباطنية” للأفراد فى أى كيان يتواجد فى المجتمع، أيًّا كان نوعه أو درجته أو تخصصه (حكومي/ عام/ خاص/ مشترك/ خدمي/ استثماري/ تطوعي). أى كيان يؤسس بشريًّا من مؤسسين/ إدارة عليا/ إدارات وسطى/ إدارات تنفيذية. واقعيًّا، هؤلاء الأفراد إما مستمرون فى العمل أو ينتهون منه بالاستقالة أو التقاعد أو الفصل أو الوفاة.
من جهة أخرى تتكون “معرفة” الكيان من مجموعة البيانات والمعلومات والمهارات والخبرة لهؤلاء الأفراد طبقًا لموقعهم فى هيكل الإدارة، بما يجعلهم يكونون رأس المال المعرفى لهذه المعرفة (ويقصد به رأس المال البشرى للقادرين على حل مشاكل العملاء + رأس المال العملاء أنفسهم بوصفهم مصدرًا من مصادر معرفة الكيان + رأس المال الهيكلى المتعلق بمعلومات ونظم تطوير العمل والتنظيم الداخلى لمقابلة متطلبات السوق).
غير أن مفهوم “المعرفة الباطنية” أو ما يعرف بـ(Know.How / Savoir du Fair) داخل رأس المال المعرفى، له خصوصية غالبة؛ من حيث كونها داخل عقول الأفراد، المتضمنة الخبرة والمعارف العملية للشخص ومعرفته الفنية الذى يمتلكها ويديرها ويصعب انتقالها للغير. من هنا اتُّفق على ما إذا كانت معرفة الكيان قابلة لتوليد الأفكار والحلول من خبرة أصحابها، إلا أن هذه المعرفة يمكن أن تموت أيضًا فجأة أو تدريجيًّا، بحالة من (انتهاء) علاقة الفرد بهذا الكيان، خاصة إذا كان المتقاعد أو المستقيل قضى مدة طويلة داخل الكيان خبَر فيه دهاليزه وأسراره ومَكامن ضعفه وقوته.
وبدلًا من بناء الكيان رصيدًا معرفيًّا من تلك المعرفة الباطنية، بما يسمح له بالتطوير والتنمية والاحتفاظ بمحفظة مشروعات وأفكار ومعلومات قابلة للتدوير والإطلاق، نجده قد يضطر لإعادة اختراع العجلة أو استكمال تنفيذ مشوه، أو تكبُّد تكاليف مضاعفة أو مسئوليات تجاهلت حسابها. (يمكن استيعاب أبعاد المشكلة عند تصور أثر أحداث ثورة ليبيا بعد غياب المعرفة الباطنية لكبار قواد مجلس الثورة الليبى وضباطه والموظفين والمفكرين وصناع القرار فى الاقتصاد والسياسة والجيش والخارجية!).
من هنا تظهر خطورة فردية المعرفة، المحتفَظ بها فى عقول وأدمغة الأفراد، خاصة إذا كانوا فى مواقع حساسة أو تنفيذية أو استشارية. وخطورتها أنها قادرة على معالجة البيانات وتحويلها لمعلومات ومهارات شخصية، تساعدهم على رصد مشكلة أو ابتكار حل أو معرفة سبب فشل أو نجاح. الأكثر خطورة هو آلية تداول هذه المعرفة خلال العمل، التى تتراوح بين إطلاع الكيان عليها كاملة أو حجب بعضها لاستمرار الحاجة له، أو إعادة توجيه المعرفة لمصلحة خاصة أو لمنافسين!
المشكلة الحقيقية هى عدم وجود نظام، منهجية، آلية لدى الكيان لتحويل المعرفة الباطنية لأفراده إلى معرفة ظاهرة تقنن بالوثائق أو الكمبيوتر، بطريقة يمكن الاستفادة منها وتطويرها وإعادة استخدامها بصورة أفضل. أغلب الكيانات بصفة عامة، لا تحتفظ أو توثق أو تدير المعرفة الباطنية لمنسوبيها، بصورة تسمح لها بالاستفادة من خبرتهم ومعلوماتهم ومعرفتهم الفنية.
ورغم أن الكيانات عادة ما تسير وفقًا لسياسات عمل أو استراتيجيات تشكل الإطار العام للعمل، فإن المعرفة الباطنية لمنسوبيها فى تنفيذ هذه السياسات هى ما يشكل العصب الحقيقى لنجاح أو فشل هذه الكيانات. لذلك فالمتقاعدون والمستقيلون والمتوفون فجأة، لديهم الرصيد الواقعي- غير الموثق منهجيًّا- لموقف الكيان فى العديد من المشروعات والقضايا والمشاكل والأزمات والصفقات والتوسعات.. إلخ. ورغم وجود نظم أرشيف ورقى وميكروفيلم وذاكرة حاسوبية، لكنها تبقى ملفات استاتيكية خرساء للحفظ فقط وليست ديناميكية تفاعلية، بخلفيات وأسباب صدورها أو العدول عنها أو حفظها أو إخفائها؛ لتكون الاستفادة منها حسب قدرة المُطلع عليها على التحليل والاستنتاج فى زمن محدد، بلا ضمان لتحقيق الترابط فيه أو الخروج بنتائج نافعة.
وللحديث بقية غداً