عبر عمره الإذاعى، من 1953، كتب سعد زغلول نصار مئات البرامج المتنوعة، ما بين «ركن الجيش» الذى قدمه فى الخمسينيات بالبرنامج العام، وما بين عدد بغير حصر فى إذاعة صوت العرب : برنامجه الأسبوعى: «من القلب للقلب»، والبرامج اليومية أو الأسبوعية التـى كان يتبادل الكتابة فيها: «حوار مع مستمع»، «مع الله»، «قرأت لك»، «دنيا ودين» ، «يا رب»، «على طريق الهدى والإيمان»، فضلا عن البرامج المستقلة، والتعليقات السياسية.. يبدو أنه لا مناص من أن يذهب هذا التراث الهائل بددًا، فهذا قدر الإذاعيين الذين يتعاملون مع الأثير، وتحت إلحاح الحوادث اليومية، والمتغيرات المتوالية، وتيارات الحياة التى لا تكف عن الدوران.. ولست إلى هذه الأعمال أقصد حين أتحدث عن الأعمال الكبرى واجبة النشر والإتاحة للمتلقين، وإنما أتحدث عن الأعمال الدرامية الكبرى التى تنتهى صلة المتلقين بها بعد إذاعة المسلسل أو التمثيلية، ومـن النادر جـدًا أن تعـاد.. من هذه الأعمال ما اجتمعت له كل المقومات الأدبية والروائية والدرامية، ومنها ما حمل من حقائق الحياة والتاريخ ما يوجب حفظه من البدد والضياع!
كتابة الدراما الإذاعية، موهبة خاصة، لا تتوفر لكل إذاعى.. قليلون فى تاريخ الإذاعة من دانت لهم هذه الموهبة التى امتلكها سعد زغلول نصار باقتدار بالغ الامتياز، فهى مزيج من موهبة القص والرواية، ومكنة إدارة الحوار، وملكة التصور والخيال المجدول بالقدرة على تجسيده صوتيا.. تتسع هذه المواهب على قدر تنوع المجالات التى يعالجها مؤلف الدرامـا.. فالحوار التاريخى غير الحوار العصرى، بل وتبعًا لحقبته ومكانه، والحوار الحضرى غير الريفى غير الصعيدى، والحوار بالفصحى غير الحوار بالعامية، والحوار التراجيدى غير الفكاهى أو الكوميدى.. وقـد تتداخل فى الأعمال الدرامية الكبرى لهجات الأقاليم والأقطار العربية. ألف سعد زغلول نصار العديد من الأعمال الدرامية للإذاعة المصرية وللإذاعات العربية، وللتليفزيـون أيضًا. رصيـده من هذه الأعمال رصيد هائل.. مسلسلات فى ثلاثين حلقة لكل منها: «مكة أم القرى»، و«المدينة المنورة»، و«الهوامل والشوامل»، و«التوابع والزوابـع»، و«الشاعـر ابن زيدون»، و«مداعبـات تاريخيـة»، و«اختيار» و«رجل من الشـام : العز بن عبد السـلام»، و«حدث فى رمضان»، و«الثورة المضـادة»، و«محاكمـة كوكب متمرد»، و«صيـف حـار جدا»، و«زعبوط الخديو» و«دراما غزو صدام للكويت» ـ لإذاعتها ثم للتليفزيون، غير العديد من التمثيليات، كما ألّف الدراما التليفزيونية: «طلـع البدر علينا»، و«السندباد»، و«رباعية مصرية» أو«فرسان التراب الأسمر».. وهذه الموهبة مع القدرة على التجسيد الدرامى، ودراسته للأدب والفنون والمسرح، مدت إبداعاته إلى المسرح، فألف مسرحية من فصل واحد بعنوان : «مين يقول كده»، ومسرحيـة: «ولادك يا مصر»، ومثلت على المسرح القومى وعرضت بالتليفزيون.
يبدو لى وأنا ألهث وراء سعد زغلول نصار باحثا منقبا فى أعماله، أن موازناته لما يختار تقديمه تكاد تتوازى مع موازنات الإذاعة نفسها فى تنويع مادتها ما بين الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والدين والفكر، والأدب والثقافة والسياسة، يدل على ذلك تنوع إنتاجه مع غزارته وتفرده، ويدل على أن عينه فيما يختار كتابته كانت متيقظة تعرف ماذا ترى وماذا تختار.. عنايته بالأصالة وإحياء التراث تراها تتجلى فى « الهوامل والشوامل » التى جسدها فى ثلاثين حلقة درامية، مثلما تجلت فى « التوابع والزوابع » التى جسدها دراميا فى ثلاثين حلقة.. وكلاهمـا يختلف ـ مثلا ـ عـن مسلسل «مكـة أم القـرى» أو مسلسل «المدينة المنورة».. فالتاريخ الإسلامى فى هذين المسلسلين أكثر حضورًا، بينما الفكـر والفلسفـة والأدب هى قوام « التوابع والزوابع » مثلما هى أساس «الهوامل والشوامل».. هذا العمل الأخير مجسد دراميا عما كتبه أبو حيان التوحيدى ومسكويه، فهما شريكان ـ بلغة العصر ـ فى كتابة « الهوامل والشوامل » الذى حققه أحمد أمين والسيد صقر عـام 1951 للجنة التأليف والترجمـة والنشر.. «الهوامل»: وهو الشق الذى كتبه التوحيدى، معناها الإبل السائمة رمزا لما جعل أبو حيان يطرحه من أسئلة عميقة فى كل باب، يجيب عنها مسكويه تحت عنوان «الشوامل»، وتعنى الحيوانات التى تضبط الإبـل «الهوامل» فتجمعهـا.. ومع قيمة ما أبداه مسكويه من إجابات، فإن القيمة الأساسية فيما طرحه التوحيدى فى «الهوامل» من إشكالات وفى أسئلة بعضها يفوق فى عمقه ودقته بعض إجابات مسكويه.. عن ذلك يقول أحمد أمين فى تقدمته للكتاب: إن المتأمل فيما طرحه التوحيدى يدرك بوضوح كيف كان «شخصية فلسفية طُلعـة تستخلص الأسئلة من كل ما يقع أمامها سواء كانت المسائل خلقية أو اجتماعية أو لغوية أو اقتصادية أو نفسية».. ولا غرو، فيما يقول، فقـد كان لـه من حـب الاستطلاع، والرغبة فـى البحث، والتشوف إلى المعرفة، ما جعل منه فيلسوفًا متسائلاً يدهش لكل شىء، واستطاع فى «هوامله » أن يكشف عن «عقلية موسوعية».. وهذا هو بذاته ما شف عنه الموسوعى سعد زغلول نصار، الذى لم يرهب الإقدام على هذا العمل العويص، فبسطه فى دراما إذاعية منسوجة بعناية واقتدار، وتتيحه فى يسر وسهولة لجمهور المتلقين!
www. ragai2009.com