في ظل ما يشهده العالم حاليًا من انتشار وباء كورونا المستجد، تظهر الأهمية الكبيرة للوسائل الإلكترونية في التواصل والكتابة مثل رسائل البريد الإلكتروني والتوقيع الإلكتروني كحل أمثل للتوفيق بين ما يجب الالتزام به من اجراءات احترازية وسياسات التباعد الاجتماعي من ناحية، وضرورة تسيير الأعمال ودوران عجلة الاقتصاد من ناحية أخري.
ومع الاعتماد المتزايد علي هذه الوسائل، يثور التساؤل عن حجية التوقيع الإلكتروني ورسائل البريد الإلكتروني في النظام القانوني المصري ومدي قابليتها لتكوين دليل إثبات مقبول أمام المحاكم المصرية.
تجد تلك التساؤلات إجاباتها في قانون تنظيم التوقيع الإلكتروني وإنشاء هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات رقم 15 لسنة 2004 (يشار اليه فيما بعد “قانون التوقيع الإلكتروني”) ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات رقم 109 لسنة 2005 (“اللائحة التنفيذية”).
فقد منح قانون التوقيع الإلكتروني في المادتين 14 و15 كلا من التوقيع الإلكتروني والمحررات الإلكترونية نفس قوة الإثبات المقررة للكتابة التقليدية بشرط استيفاء الشروط الفنية والتقنية المنصوص عليها في القانون واللائحة حتى تكون مؤهلة للتمتع بهذه الحجية.
التوقيع الإلكتروني المُؤهل
ينبغي أن يستوفي التوقيع الإلكتروني عدة شروط وضوابط فنية وتقنية لكي يتمتع بقوة الإثبات التي تجعله دليلًا مقبولًا أمام المحاكم المصرية، ويأتي علي رأس تلك الشروط والضوابط استناد هذا التوقيع الإلكتروني إلى شهادة تصديق أو فحص إلكتروني صادرة من إحدى جهات التصديق المعتمدة من هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات، فليس كل توقيع إلكتروني يتمتع بقوة الإثبات أمام المحاكم، إنما الأمر مقصور علي التوقيع الإلكتروني مستوفي الشروط والمعروف بالتوقيع الإلكتروني المُعزز أو المُؤهل.
ولكي يكون مؤهلًا، يجب أن يرتبط التوقيع الإلكتروني بشخص المُوَقِع (صاحب التوقيع) وحده وأن تتوافر للأخير السيطرة الكاملة علي الوسيط الإلكتروني، كما ويجب أن تتوافر امكانية الكشف عن أي تعديل أو تبديل في بيانات التوقيع أو المحرر وذلك على التفصيل التالي:
• فمن حيث ارتباط التوقيع الإلكتروني بصاحب التوقيع وحده: فذلك يتحقق متي استند هذا التوقيع على منظومة إنشاء توقيع إلكتروني مُؤمنة وأن يكون التوقيع مرتبط بشهادة تصديق أو فحص إلكتروني صادرة من جهة تصديق إلكتروني معتمدة من جانب هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات.
• من حيث سيطرة صاحب التوقيع وحده علي الوسيط الإلكتروني المستخدم في تثبيت التوقيع علي المستند: يتحقق ذلك بحيازة صاحب التوقيع لأداة حفظ المفتاح الخاص، فضلاً عن حيازته للبطاقة الذكية ورقمها السري.
• ومن حيث كشف أي تعديل في بيانات المحرر الموقع إلكترونيًا: فيتم ذلك باستخدام تقنية شفرة المفتاحين العام والخاص، وبمضاهاة شهادة التصديق الإلكتروني ببيانات إنشاء هذا التوقيع.
وعلى خلاف العديد من التشريعات في الدول الأخرى، لم ينص قانون التوقيع الإلكتروني المصري على إمكانية اتفاق الأطراف في أي معاملة إلكترونية على وسائل أو شروط بديلة للتأكد من صحة التوقيع الإلكتروني أو منحه الحجية القانونية – كالاتفاق مثلا على استخدام خدمات توقيع إلكتروني من أو أجبني غير مُعتمد من هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات وإن كان موثوق فيه من جانب الأطراف، أو الاتفاق على إضفاء الحجية على المحررات والتوقيعات الإلكترونية حتى لو لم تكن مستوفية الشروط المنصوص عليها في القانون-، إذ تعتبر قواعد التوقيع الإلكتروني قواعد آمرة ملزمة للأطراف متي توجهوا للوسيلة الإلكترونية في إبرام المعاملات.
وقد أجاز القانون استخدام التوقيع الإلكتروني في جميع المعاملات المدنية والتجارية والإدارية دون أن يستثني أي نوع من أنواع المعاملات كما فعلت بعض التشريعات في الدول الأخرى بأن استثنت على سبيل المثال تلك المحررات المتعلقة بالأحوال الشخصية ومسائل الأسرة وكذلك التصرفات العينية الواردة على عقار، وهو ما يثير التساؤل حول إمكانية اعتماد التوقيع الإلكتروني في مثل هذه المعاملات من الناحية العملية.
والواقع العملي للتعامل مع الجهات الحكومية يظهر تضاربًا في السماح للمتعاملين باستعمال التوقيع الإلكتروني في المعاملات الإدارية وفقًا لنص القانون، فعلي الرغم من وجود جهات وهيئات حكومية تسمح للجمهور باستعمال توقيعاتهم الإلكترونية أمامها ومنها علي سبيل المثال الهيئة العامة للاستثمار التي تسمح للمتعاملين باستعمال التوقيع الإلكتروني في بعض طلبات الاعتماد والخدمات التي تقدم عبر شبكة الإنترنت، إلا أن معظم الجهات لا تسمح باستعمال التوقيع الإلكتروني في التعامل أمامها ومنها علي سبيل المثال الشهر العقاري والمحاكم.
مقدمو خدمات التصديق الإلكتروني في مصر
تُرخص حاليًا هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات لاثنين فقط من مقدمي خدمات التوقيع الإلكتروني؛ وهما شركة مصر للمقاصة والإيداع والقيد المركزي، وشركة تراست ايجيب لخدمات التوقيع الإلكتروني وحماية المعلومات. وبناء عليه يتعين الاستعانة بخدمات ي من هاتين الشركتين للحصول علي توقيع إلكتروني مؤهل يتمتع بذات قوة الإثبات الخاصة بالتوقيع التقليدي أمام المحاكم المصرية.
استحدثت التعديلات الأخيرة للائحة التنفيذية لقانون التوقيع الإلكتروني الصادرة في أبريل المنصرف وسيلة إلكترونية جديدة إلي جانب التوقيع الإلكتروني، ألا وهي الختم الإلكتروني. ووفقًا لتعريف اللائحة لهذه الوسيلة، فالختم الإلكتروني هو مجرد توقيع إلكتروني يسمح بتحديد الشخص الاعتباري مُنشِئ هذا الختم، فالفارق بين الوسيلتين أن الاولي تتعلق بالأشخاص الطبيعيين أما الثانية تتعلق بالأشخاص الاعتبارية.
ونتيجة لحداثة المصطلح وعدم دخوله حيذ التطبيق والتجربة الفعلية، فلا يتثني لنا حتى الآن معرفة ما اذا كانت جهات التصديق الإلكتروني المرخص لها بإصدار شهادات التوقيع الإلكتروني ستحتاج إلي ترخيص آخر لاصدار شهادات الختم الإلكتروني للأشخاص الاعتبارية أم سيشمل الترخيص الحالي ذلك.
رسائل البريد الإلكتروني
لاشك أن البريد الإلكتروني يعتبر نوعًا من أنواع الكتابة والمحررات الإلكترونية مما يستوجب استيفاء هذه الرسائل للشروط المذكورة سلفًا لكي تتمتع بقوة الإثبات المقررة للرسائل الورقية المكتوبة.
وفضلاً عن تلك الشروط المذكورة، فقد وضعت المادة 8 من اللائحة التنفيذية بعض الضوابط الفنية الإضافية في المحررات والكتابة الإلكترونية؛ أهمها أن يكون متاحًا فنيًا تحديد وقت وتاريخ إنشاء المحرر أو الكتابة عن طريق نظام حفظ غير خاضع لسيطرة المُنشِئ، وأن يكون متاحًا فنيًا تحديد مصدر إنشاء المحرر أو الكتابة ودرجة سيطرة المُنشِئ علي هذا المصدر وعلي الوسيط المستخدم في إنشائها.
وقد سكت القانون المصري عن تحديد طبيعة المحررات الإلكترونية وما إذا كانت مستخرجاتها تعتبر محررات عرفية في حد ذاتها أم صور من محررات عرفية، تاركًا الأمر إلي التطبيقات القضائية لحسم تلك المسألة، والفارق كبير بالطبع بين التصورين إذ أن المحررات العرفية – متي ثبت نسبتها إلي صاحبها – تصبح حجة عليه لا يمكنه الخلاص منها إلا بإثبات تزويرها، أما صور المحررات العرفية فلا قيمة لها في الإثبات إلا بمقدار ما تهدي إلى الأصل إذا كان موجودًا فيرجع إليه، أما إذا كان غير موجود فلا سبيل للاحتجاج بالصورة إذ هل لا تحمل كتابة أو توقيع من صدرت عنه.
محكمة النقض ترسي مبدءا هامًا جديدا في شأن إثبات صحة البريد الإلكتروني
جاء قضاء محكمة النقض المصرية مشتتًا في شأن إثبات حجية رسائل البريد الإلكتروني، ففي البداية تبني قضاء محكمة النقض الاتجاه الذي يعتبر مستخرجات رسائل البريد الإلكتروني مجرد صور ضوئية ليس لها قيمة في الإثبات بمجرد جحدها وانكارها ممن تُنسب إليه حيث ذهبت محكمة النقض في حكم لها العام الماضي بجلسة 28 مارس 2019 إلى أن المراسلات التي تتم بين أطرافها عن طريق البريد الإلكتروني لا يكون لها ثمة حجية عند جحدها أو انكارها، إذ لا حجية لصور المحررات إلا بقدر مطابقتها للأصل، وأنه على من يتمسك بصحة المحرر الإلكتروني إثبات صحته ونسبته إلى صاحبه.
إلا أن محكمة النقض سرعان ما عادت في أحدث أحكامها الصادرة بجلسة 10 مارس 2020 وعدلت عن هذا الاتجاه وتبنت اتجاهًا آخر يعتبر مستخرجات رسائل البريد الإلكتروني عصية علي مجرد الجحد والنكران ولا سبيل للطرف المنسوبة إليه سوى الطعن عليها بالتزوير لجحدها، إذ جاء في حكم محكمة النقض أن الرسائل المتبادلة بطريق البريد الإلكتروني تكتسب حجية في الإثبات تتساوى مع تلك المفرغة ورقيًا والمذيلة بتوقيع كتابي إذا ما توافرت الشروط والضوابط المنصوص عليها في القانون، وأنه لا يحول دون قبولها كدليل في الإثبات أنها جائت في شكل مستخرجات إلكترونية حيث لا يملك مُرسِل رسالة البريد الإلكتروني أن يقدم أصل المستند أو المحرر الإلكتروني، ذلك أن كل مستخرجات الأجهزة الإلكترونية، لا تعدو أن تكون نسخًا ورقية مطبوعة خالية من توقيع طرفيها.
وبهذا تكون محكمة النقض المصرية قد أرست مبدءًا هامًا جديدًا أكدت فيه على أن رسائل البريد الإلكتروني عصية علي مجرد نكران وجحد الخصم لمستخرجاتها وتمسكه بتقديم أصلها، وهي بذلك قد افترضت صحة البريد الإلكتروني ونقلت عبء إثبات غير ذلك على من ينكر البريد الإلكتروني، ليس هذا فقط، بل أنها جعلت السبيل الوحيد لدحض حجية البريد الإلكتروني هو دعوى التزير تمهيدًا للاستعانة بالخبراء الفنيين في هذا الخصوص.