ربما خال لنا أن تقدم البشرية ـ إذا ما تقدمت ـ يرجع إلى همة وإصرار وسعى الخاصة من الأثرياء فى هذه الجماعة أو تلك.. وهذا غير صحيح.. فالتقدم قديمًا وحديثًا مصدره دائمًا النجباء والأذكياء، وأغلب هؤلاء من أبناء وبنات العامة.. فالنجابة أو الذكاء إلهام فطرى لا يدين قط لمعونة المال إلا مع ظهور الاحتياج لنمو ورعاية جهد النجيب أو الذكى.. وفى زماننا تعلق معظم الناس تعلقا ضريرًا بحب المال، يكاد يصدق عليهم قول الحق جل وعلا : « وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا » ( الفجر 20 ).. من حب المال انصرف عامة النجباء والأذكياء إلا أقل القليل ـ إلى اقتناء المال أو النفوذ أو السلطة !.. إذ لم يعد الانتساب للبدايات المجهولة أو الوضيعة ـ عائقا يعوق النجيب أو الذكى عن الوصول إلى الثروة أو الزعامة أو الرياسة، ولم تعد عراقة الأصل الشريف أو قدم البيت الكبير، أو أمجاد الآباء والأجداد وتواريخهم ـ تحجب أو تمنع نجباء وأذكياء العامة من الصعود إلى القمة فى السلطة أو النفوذ أو الثروة.. طبيعى أن يؤدى كل هذا التفوق الطارئ المجيد إلى انصراف الأغلبية الغالبة من النجباء والأذكياء إلى الانكباب على أعماق العلوم الوضعية والكونية، وما ينكشف فى كل خطوة فيها من جديد لا يزال قليلاً جدًّا يشير إلى مجاهيل هائلة لا تزال غائبة عنا.. هذه المجاهيل التى لا يزال على العلم البشرى أن يعرف ما يستطيع الوصول إليه منها لكى يصحح طريقه وتستقيم به مسيرته حقًا وصدقًا لا ظنًا واحتمالاً !!
وكل آدمى لم يسلم ولا يسلم قط من الشعور بذلك التأثير العام الخالى من الإحساس بالغرض الشخصى ـ الذى يحدثه فى داخله حركات وسكنات جموع البشر المرتبطة بوجوده أو صفاته أو طباعه أو عمله أو يقظته أو نومه أو أسرته أو جيرته، أو فيما يدركه فيما يراه أو يسميه أو يقرؤه بوسيلة من الوسائل.. هذا التأثير الذى يبدو عامًا ـ لا ينقطع قط تسرّبه وانتشاره فينا.. يحدث ذلك دون أن نلتفت إليه، لأنه يدخل إلى كل آدمى من طريق الحواس أولاً.. تأخذه « الأنا » فى أحضانها هى دون أن يمر على رقابة المصلحة والضرر والتفكير والحساب والخوف، ودون أن يتعرض للانتباه والتقليب والفحص والتأمل وفرز ما هو قابل للفائدة أو الضرر فى نظر الآدمى.. واحتضان « الأنا » لذلك التأثير الذى لا يهدأ بداخلنا ـ هو الذى ينسينا أننا مخلوقات لوقت محدود له بداية ولم يسبق له وجود ثم له نهاية محتومة!..
فـ « الأنا » فى أعماقها ترفض وتتجاهل بدايات ونهايات البشر برغم عناية الجماعات المتحضرة بتسجيلها للحفاظ على الأنساب وضبط الأعمار بقدر الإمكان !
نحن جميعًا دائبو التمرد ومحاولة الفرار من « وقتية » وجود كل منا على هذه الأرض، ولا يكف كل واحد منا عن هذه المحاولة بقدر ما لديه من الأمل الموهوم أنه يربطه بالاستمرار فى الحياة إلى أن يكره على مفارقتها وطرده منها رغم أنفه..لا نعتبر بقول الحق تبارك وتعالى : « أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ » (النساء 78).. يظل الآدمى متعلقًا تعلقًا ضريرًا بالحياة حتى يفارقها حتف أنفه.. وقد يتعزى للحظات ـ ببقاء نسله ودوام أثره !
www. ragai2009.com