يجوز القول بادئ ذى بدء.. إن العالم العربى يعانى اليوم فى سبيل الارتقاء بالدولة الوطنية (المهيضة) .. من إرهاصات التوابع الناتجة.. عقب الحرب العالمية الثانية – عن التنافس والغيرة الدبلوماسية بين وحداتها السياسية .. من بعد قرون أمضتها متضامنة – بالقهر – تحت نظم الحكم الإمبراطورية، والخلافة .. والسلطنة إلخ، قبل أن تتفكك عراها تحت تقسيمات الانتداب والوصاية الغربية فى عشرينيات القرن الماضى إلى أن شاعت بها نوازع الفرقة منذ النصف الثانى من القرن العشرين.
إذ أدى التضارب فى المنطلقات القطرية بين ما عرف بالدول التقدمية والمحافظة إلى هزيمة مصر جراء الهجمة الصهيونية الإمبريالية 1967، ما زالت تعانى – والعالم العربى – من توابعها إلى الآن، كما أدت بالمثل عوارض التنازع على الزعامة العربية بين البعث والقومية (الناصرية) إلى انسياق العراق فى سبيل التفوق .. للدخول فى نفق من المغامرات المتتالية (حروب الخليج الثلاث) ما زالت سراديبه المعتمة تتقاذف مستقبل العراق – والعالم العربى – إلى اليوم.
إلى ذلك، لم تكن قمة بغداد العربية التى أعقبت توقيع مصر اتفاقية (كامب ديفيد) مع إسرائيل، هى المناسبة الوحيدة لسعى العراق إلى دفع القادة العرب إلى استصدار قرار القمة بعزل مصر، استغلالاً لموقف تتزعم من خلاله عالم عربي، ليست فيه كبرى الدول العربية ولها هالتها، ما يمثل استئنافاً للتنافس فى حقبات تاريخية سابقة بين العاصمتين التليدتين، أو لاحقا فى عهدهما الملكى أو الثورى فيما بعد، بسيان ذلك.
باستثناء التماس العراق الاستعانة بالخبرات المصرية المتنوعة فى حربه مع إيران طوال الثمانينات التى انتهت بانتصاره على الجمهورية الإسلامية البازغة، ما تهيأ معه للقيادة العراقية جواز التشبه بالمكانة الإقليمية لمصر التى تبوأتها عقب حرب السويس 1956، إيذانًا بسعى من ثم العراق إلى تزعم مقترحها بتشكيل مجلس التعاون العربى 1989، ضم إلى جانبها كلاً من مصر ودول عربية أخرى، قبل أن يؤدى جموح غرور الهوى بالقيادة العراقية إلى مغامرة غزو الكويت 1990 ، لينكفئ على نفسه لنحو عقد تال قبل الغزو الأميركى لأراضيه 2003 .
حيث يعانى العراقيون منذ ذلك العهد أسوأ ما مر بتاريخهم السياسى، حتى ليصدق إزاءه قول الشاعر .. «كادت مآذن الشام تبكى إذ تعانقت ، وللمآذن كالأحباب أرواح – مستطرداً – ما للعروبة مثل أرملة.. أليس فى كتب التاريخ أفراح».. وإذا انحسرت من بعد – وتراجعت – النقاشات القومية فى المفاضلة بين وحدة الصف ووحدة الهدف.. إلخ، فقد بات المشرق العربى – اليوم – خالياً من سجالات كهذه .. تتوارى رءوسها الأيديولوجية والثقافية والأخلاقية، إلا من الإبقاء على الرأس الأمنى لحماية أنظمة باتت مهترأة من شرق البحر المتوسط حتى شرقى السويس، تتلاطمها حروب أهلية.. بدءا من 1970 (الأردن) – 1975(لبنان) -1991 2003 (العراق) – 2011 (سوريا)- 2014 (اليمن).. غير المسكوت عنها من مظاهرات ثورية عنفية أو مساجلات برلمانية، أو مزيج من الاثنين كما يحصل فى مصر وليبيا والسودان، وبصفة ملموسة فى العراق مؤخراً، حيث عنفية التصدى للمظاهرات الشعبية منذ أكتوبر الماضى.. وبموازاة محاولات موءودة لتشكيل حكومات برلمانية (المالكى – العبادى – عبد المهدى..) قبل أن يستجد فى العراق أخيرا فوز «مصطفى الكاظمي» بأغلبية برلمانية – رئيسا للوزراء – يجمع عليه غالبية الفرقاء المعنيين بالمسألة العراقية، سواء على الصعد المحلية أو الإقليمية أو الدولية، فيما يلقى الاستبشار من مصر والسعودية.
كذلك من الولايات المتحدة وروسيا، فيما إشارات توحى من العراق بالتغيير فى سطوة النفوذ الإيرانى، ومحالفيه، توطئة -ربما – للعمل ضد الوجود الأميركى العسكرى، كأصعب مهام «الكاظمى»، لئلا يبتعد عن إيران بقر عدم تماهيه تماماً مع الولايات المتحدة، لإنقاذ التراب العراقى، ذلك فى الوقت الذى يفرج القضاء عن جميع المتظاهرين ، وتتصل الحرب على الفساد إلى البرلمان الذى يتعاون فى غالبيته مع مطالب المتظاهرين، كما تتأكد هيبة المؤسسة العسكرية .. الأمنية، للسيطرة على الميليشيات ، سواء من خلال القبول الداخلى بـ «الكاظمى» من البرلمان والمؤسسة العسكرية، من ناحية، وبالدعم الخارجى له لمواجهة خصومه، ذلك لإعادة بناء العراق – كمثال، عربي تضامنى – بالتعاون ما بين الأداء البرلمانى والتحصن بالمؤسسة العسكرية.