مناقشة الأفكار التى تحكم سياسة ترامب أمر ضرورى وصعب فى آن واحد. الصعوبة تعود إلى تقلبه واندفاعه، هل هذا التقلب مقصود لمفاجأة خصومه أو الفرقاء أو الحلفاء… أم هو فقط دال على وجود مشكلة نفسية، أعتقد أن الرد سيكوم مزيجًا من الاثنين.
احدى نتائج التقلب أنك ستجد دائمًا أفعالًا وقرارات للرئيس تخالف وتناقض الفكرة التى نسبتها له. على سبيل المثال موقفه من القطبين قد يبدو منطقيًّا… على عكس ما يدعيه الليبراليون. فالمنافس أو الخصم الرئيس هو الصين. وسياسات الرئيس السابق أوباما وتصريحاته رمت روسيا فى أحضان الأخيرة. نتذكر أن أوباما تعمد إهانة الرئيس بوتين قائلا إن روسيا قوة «إقليمية» وليست «دولية»، وهذا خطأ فج. وأنها تنتهج سياسة تكلفها فوق طاقتها وطاقة اقتصادها، وهذا يبدو صحيحًا، ولكنه كان مبررًا لرفض الاهتمام بما يقوله الروس عن مصالحهم هم… وهذا خطأ يكرره الأمريكيون كثيرًا… يتصورون أنهم يستطيعون أن يدفعوا بل أن يجبروا أى دولة على تعريف مصالحها بحيث لا تتعارض مع المصالح الأمريكية.
المهم… نسمع فى بعض الدوائر الغربية كلامًا مفاده أن الدول الغربية ستحتاج إلى الحياد الروسى فى المواجهة مع الصين، وأن عليها فهم أنها خالفت وعودها لموسكو بعدم التمدد شرقًا، وأن مسلكها الحالى خطر على مصالحها. ونسمع أيضًا كلاما يقول إن الليبراليين الغربيين فقدوا القدرة على التفكير الاستراتيجى بمنطق الجغرافيا السياسية. ومن ثم لا يفهمون من يتكلم ويخطط ويفعل بهذا المنطق.
كل هذا معقول إلا أنه يقلل من أهمية الأخطاء التى ارتكبتها روسيا ومن عيوب مقاربتها التى لا تحترم إرادة الشعوب «الصغيرة». ولكن المهم… على فرض أن ترامب فهم أن الحياد الروسى مطلوب فى المواجهة مع الصين… وأن الأولوية المطلقة هى للصراع مع هذه الدولة… كيف يمكن شرح قراراته التى أضعفت حلفاءه فى آسيا وتفكيره المستمر فى الانسحاب من جنوب كوريا…
تفسير سلوك الرئيس ترامب سيكون فكرة أخرى تحكم تفكيره… وهى أن النظام العالمى الذى رسمته الولايات المتحدة، وحرص واشنطن على الإكثار من الحلفاء تسببا فى وضع تضخمت فيه ظاهرة «الراكب الذى لا يدفع تذكرة»، أى ظاهرة الدول التى تستفيد من الأمن والاستقرار والحماية الأمريكية دون أن تشارك فى ضمانها وفى دفع تكلفة هذا الأمن… ولا يمكن إنكار وجود مثل هذه الظاهرة… واشتكت منه إدارات أمريكية سابقة.
ويمكن القول إن أغلب الدول الأوروبية الأعضاء فى الناتو لا تبذل المجهود الكافى ولا تنفذ وعدها بتخصيص %2 من ناتجها القومى الإجمالى، للإنفاق العسكري… ولا شك أن ألمانيا أهم مخالف، ويشارك الرئيس ماكرون الرئيس ترامب الرأى فيما يتعلق بهذا. الفارق فى أسلوب المعالجة. وطبعا الأسلوب مهم. والأسلوب الذى اختاره الرئيس الأمريكى يسمح بالحديث عن بلطجة تريد فرض إتاوات.
ويميل ترامب إلى التركيز على كلفة أى شراكة أو أى حلف… يرى ما تدفعه الولايات المتحدة من ثمن ولا يرى ما تحصل عليه فى المقابل. وهذا المقابل قد يكون غير ملموس ولكنه مهم، ولكن الليبراليين الأمريكيين يرتكبون الخطأ المضاد… يتفننون فى إيجاد مبررات للتهرب من مواجهات قد تكون ضرورية. والحديث عن مواجهات ضرورية لا يعنى بالضرورة تأييد الطريقة والاستراتيجية التى يتبعها الرئيس الأمريكي.
نستطيع طبعًا أن نقبل كلام بعض الأمريكيين حول افتتان الرئيس ترامب بالرجال الأقوياء ولو كانوا لا علاقة لهم بالديمقراطية. ولكنهم يتناسون أن سعى الليبراليين الدائم إلى نشر الديمقراطية دفعهم إلى التدخل غير المقبول فى شئون الغير بما فيهم الحلفاء… تدخل أضر ضررًا بالغًا بالمشروع الديمقراطى الذى بدا كأنه أداة للإمبريالية… وأضر بالمصالح الأمريكية وأفقد الليبراليين البوصلة فيما يتعلق بالجغرافيا السياسية.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية