مرتضى المراغى شاهدًا على حكم فاروق (32)
كان العشاء الذى وصفه المراغى بسيطًا، مما يدل على انتفاء الكلفة بين صاحبة البيت والأميرة، ويصف المراغى الأميرة بأنها «كانت ترتدى ثوبًا بسيطًا يضيف رونقًا ساحرًا إلى جمالها الأخاذ. عيناها زرقاوان مع شىء قليل من السواد يطفو على الزرقة كتلة من السحاب تعبر السماء، وشعرها الناعم الأسود يجلل رأسها الجميل، ووجهها عاجى اللون وصوتها دافئ وناعم يعبر عن أنوثة صارخة».
«مر العشاء فى صمت إلاَّ كلمات خافتة وبعض الضحكات على نكات كان يطلقها زوج الأميرة المخمور، وكانت أحيانًا توجه إليه نظرة تأنيب على بعض نكاته الثقيلة التى كان يعقبها بضحكات عالية صارخة. وكنا نضحك تأدبًا. انتهى العشاء وتوجهنا إلى الصالون لاحتساء القهوة. جلست الأميرة على ديوان وأشارت إلىَّ بأن أجلس إلى جوارها».
ودار بين الأميرة فايزة أحمد فؤاد، ومرتضى المراغى، الحوار التالى:
سألته: كيف الحال؟
قال: الحمد لله.
ضحكت ساخرة وقالت: الحمد لله على ماذا؟
قال: على الحال.
قالت غاضبة: هل تحمد الله على المصائب التى تجرى فى هذا البلد؟
قال: يا سيدتى فى العالم كله مصائب وليس فى هذا البلد وحده.
قالت: هل تظن أنك تكون سعيدًا إذا انتهى الأمر إلى الخراب الشامل للبلد والخراب لنا جميعًا.
قال: أى خراب تعنين يا سيدتى؟
نظرت الأميرة إلى المراغى نظرة غاضبة، وعبس وجهها الجميل، وصاحت، ولكن بصوت منخفض.
ألا تعلم أن هذا الرجل يقودنا جميعًا إلى الخراب؟
قال: ومن ذا الرجل؟
قالت: أرجو ألاَّ تتظاهر بعدم الفهم فأنت تعرف أننى أقصد أخى فاروق.
يضيف المراغى أنه فتح فاه من الدهشة، ولكنه لم يتكلم، بينما مضت الأميرة تقول: نعم ! إنه أخى فاروق. ولم تقل أبدًا الملك فاروق. وعجب المراغى من حديثها عن أخيها، حتى أنه خطر له أن يكون هذا شَرَك موعز به من الملك له ولغيره من رجال الدولة لمعرفة حقيقة رأيهم فيه.
وإذْ بالأميرة تستأنف وهى تحدق فيه، وتقول:
«إنى أعلم فى ماذا تفكر. إنك تظن أنى مدسوسة عليك لكى يعرف الملك ما تضمر. ولكنى لست من ذلك النوع. إنى صريحة حتى معه. وقلت له ما قلته لك اليوم. ولكنه لم يعبأ بشىء. ويمضى فى عبثه. إنى ألمس الخطر المحدق بنا جميعًا. إن أخى غير طبيعى. وأنا أعلم ذلك عن يقين، لأنى أقرب الناس إليه. ووالدتى تعلم ذلك».
أوقفوا الملك عند حده!
يمضى مرتضى المراغى فى وصف هذا اللقاء الغريب، والحديث الأغرب، فيضيف أنه بعد فترة من انعقاد لسانه، قال لها بعد تفكير طاف به أن الملك يضعها تحت مراقبة دقيقة من بوليسه الخاص لأنها على علاقة شخصية بأحد الشبان الأجانب المقيمين فى مصر. قال لها المراغى:
«يا سمو الأميرة لماذا لا تجتمعون أنتم أفراد الأسرة المالكة، وتتوجهون إليه شارحين له الأمر وخطورة العواقب»
قالت: هم أسوأ منه. إنهم جبناء يخافون بطشه، إنه يستطيع أن يحرم أى واحد منهم من لقب الإمارة.
قال: ألا تخشين أن يحرمك أنت؟
قالت: لا يهمنى لقب الإمارة ليته يفعل ذلك. ولكنه لن يفعل لأنه يخشى أن أذهب إلى الخارج وأشنع عليه.
قال: وماذا تطلبين منى أن أفعل؟
قالت: إنك شاب تشغل منصبًا كبيرًا فى الدولة. وتستطيع أنت وأمثالك أن تعملوا على إيقاف أخى عند حده.
قال: ليس الأمر بالسهولة التى تتصورين. ولكن الأمور إذا تفاقمت كونت عاصفة قد تزيل من أمامها المساوئ. لأن المساوئ هشة لا تقدر على تحمل العواصف. أما المحاسن فتبقى لأنها فى صلابة الجبل. وهنا حضر زوجها التركى وكان يترنح من السكر وهو يقول: ما هذه الخلوة، وددت لو أعرف ما يقول أحدكما للآخر؟ وبعد أن ترنح مرة أخرى، أخرج من جيبه فنجان قهوة فارغًا وقدمه إلىَّ قائلاً: أقرأ ما فى داخله. فتطلعت فى الفنجان وقرأت هذه العبارة: إذا كانت لك زوجة جميلة فيجب أن تكون لك سبع عيون. أعدت إليه الفنجان. فصاح متعلثمًا: ما رأيك فيما قرأت؟ قلت له: لا داعى يا سيدى للعيون السبع. يكفى أن يكون الزوج رجلاً.
طفق المراغى بعد إيابه إلى منزله يفكر فيما قالته الأميرة عن اختلال عقل أخيها الملك، خصوصًا أنها لم تتحدث بمعنى المجاز، وإنما قصدت أنه مختل العقل فعلاً. بل وكانت تعيد العبارة وتشدد النطق بها.
وهنا يضيف المراغى أنه فضلاً عن علمه بمراقبة الملك لها، مما يعنى أنها موتورة منه، فإنه يعلم أيضًا أنها تعرضت قبل زواجها لأزمة أخلاقية ونفسية عنيفة من أخيها، جعلتها تنقطع عن زيارة القصر انقطاعًا تامًا بل إنها تزوجت على رغم معارضة أخيها. ولم تأبه بتهديداته على رغم أن زوجها كان يكبرها فى السن كثيرًا، وهذا نوع من هروب النفس من حالة سيئة إلى حالة أخرى قد تكون أسوأ!.
www. ragai2009.com