عاد «أدهم» ابن شقيقتى من أبوسمبل مُنبهرا بمعبدى رمسيس الثانى ونفرتارى.. والسجق الأسواني!
وأدهم من مواليد وساكنى أمريكا منذ 26 عاما، بثقافة وتعليم أمريكي، وانتماء وروح مصرية تبحث دوما فى الجذور عن ثمار المستقبل.
وقال منفعلا (لا أصدق أنى حفيد هذه العظمة الخالدة ولو عشت بأمريكا القرن 21، ذكر الترجمان عبقرية رمسيس فى السيطرة على النوبة والنوبيين ـ مصدر الذهب والتجارة المهمة ـ ببناء معبديه المعجزة لإبهارهم وتمصيرهم ـ وأضاف مبتسما ـ وربما هذا سر خرافية السجق الأسوانى الحار! ومع ذلك فرمسيس أشهر وأبقى من السجق المستمر حتى الآن؟).
فاجأنى تعليقه بحزمة متناقضات وأفكار مركبة! فربط عراقة رمسيس بالسجق الحالى عبثية تماما، ولكنها لا تخلو من وجاهة؟ استعدت التعليق واستحضرت مفاهيم الزمن وتكوين الأمم وتطورها وأدلة إنجازاتها، فوجدت معنى للرابطة أو لعلاقة المخ بالسجق!
عرف المصريون القدماء السجق أو النقانق؛ كمحشو أمعاء باللحم المفروم والشحم والتوابل، وأكلوها بصور مختلفة كلها مفيدة ومغذية وبرعوا فى تصنيعها وحفظها، حتى وصلت لعلمنا. وتحويل المكونات لسجق أو «السجْوًقة» كما سميتها، منهجية محترفة باحتواء المعى (مفرد أمعاء) ـ بالضغط والحشر والخلط والعجن ـ لخلطة تحويل ٦مكونات مختلفة لتثمر منتجا واحدا! ولكن ما يميز أنواع السجق هو (المخ) الخبير بالسجوقة، التى قد تترقى (بمخمخة) المنتج للخلود أو لمجرد الفضلات!
الفكرة أن السجوقة تحويل للانتهاء أما المخمخة فإبداع للبقاء! تداعيات فكرة علاقة فرعون بالسجق أو المخ بالسجوقة، يجعلنا نلاحظ أن الإنسان ذاته سجق، محشو أحلاما وطموحا ومشاكل وأزمات! ولكن عبقرية وإدارة المخ ما تجعله منتجا، مبدعا، متطورا، متمردا، وهكذا. وكما الإنسان، تكون المجتمعات، أو الشعوب، بل البلاد، وحتى المناطق. لا عيب أو خفة فى صفة السجق، التى تحولت لحالة أو أسلوب حياة للبشر على الأرض خصوصا بعد (سجوقتهم) بتمخيخة كورونا!
تظهر أزمة السجق فى فساد المكونات أو غلطات الخلطة! وهنا نفرق بين الفساد الطبيعى للمكونات وإفسادها، وبين غلطات السهو للخلطة وإتلافها! بكل الحالات داخل كل إنسان أو شعب، سجق ومخ يتصارعان السجوقة والتمخيخ! فإذا عرّفنا الإدارة والقيادة والتخطيط بالمخ، وعرّفنا التنفيذ والإنتاج بالسجق، لكانت السجوقة هى علاقتهما المثمرة لفن البقاء، لسجق يريد أن يمخمخ، ومخ قد يتسجوق!
هذا يقودنا إلى تدبر منظومة وتبادلية التمخيخ والسجوقة! فلا يوجد إنسان أو شعب سجق مطلقا أو مخ مطلقا! ولكن تقاس الصفة بالجيل أو الزمن وأثرهما بالناتج النهائي! (فلا فضل لمخ على سجق إلا بالأثر الإيجابي).
وبالتالى يجوز القول إن للسجق حضارات يتباين وجودها وأثرها وتأثيرها، ولكن لا توجد حضارة السجق! بخلاف المخ، فللمخ آثار يوثقها السجق، ولكن يُنسب فضلها للمخ ولا يُتذكر السجق. المشكلة الحقيقية هى إصرار المخ على استمرارية السجوقة وإدمان السجق لها لمجرد أن يعيش!
مهم جدا ملاحظة أن أزمة سجوقة الثقافة والفن والإعلام والدين والتعليم، منتجها وعى جمعى مُسجوق! فعالمية العلم بطبيعتها تتمرد على السجوقة، وتحلق به لأمخاخ لا تسجوقه بالأزمات والإحباط والقهر، ولكن تديره وتستثمره بسجوقة مطورة شكليا، لمصلحتهما معا!
لـ 7 آلاف سنة ـ متباينة الآثار ـ عُرفت مصر كماعون انصهرت به مختلف الأعراق، وسجوقتها روح مصر، لتوجد ويُبنى عليها التاريخ. لذلك مصر بلد مخ مُعجز يفسر مقولة أدهم (ومع ذلك فرمسيس أشهر وأبقى من السجق المستمر حتى الآن؟)
التحدى الحقيقى كيف نحول شعبا متخما سجُقا، إلى شعب يتعاطى مُخا؟ خصوصا لو كان وعيه الجمعى مُسجوقا داخليا وخارجيا، ليجعلنا ندمن السجوقة ونأنف من التمخيخ!
المعادلة تقول كلما زادت المخمخة بسر الخلطة، زاد السجق ثباتا وفائدة، فيُمخمخ الطعم بأثر. وكلما زاد فساد/إفساد الخلطة، قل التمخيخ واضطربت السجوقة فتشوهت آثارها!
الخوف على مصر أن يأتيها زمن فلا تُذكر بمخها ويستبد سجقها! بأن يُنسى سر خلطة عظمتها ويستشرى فساد مكوناتها، فلا يتميز إنتاجها أو تبقى آثارها، لتُبهر أحفاد الجيل المائة لأدهم، ليفتخروا بها مثله.
أيها السجق دع المخ يُبدع وينقى خلطته، لتطيب حياتك. وكما يحرص المخ على توثيق آثاره، فعليه تطوير خلطة الاحتواء والسعي. فحتى تعود مصر عالمية المخ، حتما نحترف السجوقة العادلة ونسمح بالتمخيخ الصحي، فلربما نُدرك سجق الوعى الجمعى الراكد!
…….
وبابتسامة مشجعة قال أدهم وأنا أغادره خارجا (بالمرة وأنت راجع، ممكن تجيبلى معاك 7 سجق و1مخ ؟)
فقلت بسرعة: أول القصيدة عك! مش قلتلك اضبط معادلاتك لتصح خياراتك!
مخمخ تتسجوق! فما الدنيا إلا مخ وسجق!
* محامى وكاتب مصرى