مرتضى المراغى
شاهد على حكم فاروق (3)
ظل فؤاد سراج الدين وزير الداخلية ظل فى مكتبه فى انتظار اتصال القصر ، فلما انصرم الوقت وتوالت أخبار الحرائق، غادر مكتبه واتجه إلى قصر عابدين فى نحو الساعة 2.30 ظهرًا ، فى الوقت الذى كان الملك على وشك إنهاء وليمة الغداء التى أقامها فى هذا التوقيت ، بلا مناسبة.
ولم يقابل الملك وزير داخليته ، وإنما نقل إليه أوامره بواسطة حافظ عفيفى رئيس الديوان، الذى أبلغه بموافقة الملك وأمره بنزول الجيش.
ولكن يبقى السؤال.
كيف جرى هذا الأمر الملكى ، وماذا صنع الجيش؟
اتصل الفريق حيدر تلفونيًا بمكتب رئيس الأركان الفريق عثمان المهدى الذى استبان أنه لم يكن قد وصل بعد خروجه من قصر عابدين حيث كان يحضر وليمة الملك، وفى اتصال ثانٍ طلب حيدر نزول الجيش بأكبر عدد من القوات، ورد رئيس الأركان بأن ترتيبات الخروج لا يمكن أن تستغرق أقل من 45 دقيقة ، لتكون القوات جاهزة للنزول إلى المدينة بعد الثالثة والنصف عصرًا.
ولكن فى الساعة الرابعة ؛ اتصل محافظ القاهرة بوزير الداخلية ، وأبلغه أن الجيش لم يصل بعد إلى حديقة الأزبكية، المكان المقرر للتجمع قبل التوزيع على أحياء القاهرة.
وأبلغ فؤاد سراج الدين رسالة المحافظ إلى الفريق حيدر.
وبعد ربع ساعة أخرى تحدث المحافظ مرة أخرى والهلع يسيطر عليه من انتشار الحرائق والتخريب وطلب الاستنجاد بالوزير.
ومرة ثالثة عاد المحافظ واتصل بعد ربع ساعة وهو فى حالة انزعاج بالغ.
وفى أعقاب كل مكالمة كان فؤاد سراج الدين يستعجل حيدر لاستعجال الفريق مهدى.
وأخيرًا وفى الساعة الخامسة مساءً قرب الغروب وصل إلى حديقة الأزبكية 150جنديًّا زادوا إلى 250 فى الخامسة والنصف.
وبدأت القوات تغادر الحديقة إلى شوارع المدينة فيما يروى مرتضى المراغى وفى السادسة والنصف اتصل المحافظ المسكين بوزير الداخلية يبلغه أن قوات الجيش التى تمت الاستعانة بها للسيطرة على الموقف نزلت المدينة ومرت فى الشوارع داخل عرباتها أمام المتظاهرين الذين كانوا يحطمون المحلات التجارية وأن هؤلاء المتظاهرين ما كادوا يلمحون عربات الجنود حتى راحوا يصفقون لها ويحيونها بالمعاول.. وأجاب عليهم الجنود بالابتسامات دون إطلاق رصاصة واحدة ولو على سبيل التخويف.
الأمر الكتابى المطلوب!
فى غضب بالغ اتصل وزير الداخلية فؤاد سراج الدين بحيدر ليتصل بعثمان المهدى لمعرفة سبب تقاعس قواته.
وكان الأغرب رد المهدى : أن قوات الجيش لا تستطيع إطلاق النار إلاَّ بأمر كتابى!
وصرخ الوزير فزعًا!!
وعبثًا حاول مع حيدر ؛ فغادر قصر عابدين إلى رئاسة مجلس الوزراء المنعقد لمناقشة تطورات الموقف.
وفى التاسعة مساءً وألسنة النار تضىء ليل القاهرة دق جرس التليفون. وكان المحافظ يطلب وزير الداخلية.
وهرع الوزير إلى التليفون لعله يسمع خبرًا يطمئنه ؛ ولكن يده تراخت على السماعة حين قال له المحافظ إن عدد القوات المسلحة التى نزلت لا يزيد على خمسمائة، وإنها مازالت ممتنعه عن إطلاق النار على المخربين!
الأوبرج.. لماذا أنقذوه؟!
من أغرب الغرائب فى يوم الغرائب ، أن المحل الوحيد الذى سورع إلى انقاذه ، كان كازينو الأوبرج فى شارع الأهرام. وكان يملكه «أدمون صوصة» وهو من حاشية الملك المقربة ، ثم أن الكازينو كان أحد الأماكن المختارة التى يقضى فيها الملك سهراته آخر الليل.
ويرصد مرتضى المراغى الحرائق التى اندلعت بعد نزول الجيش ، طبق للثابت بسجلات المطافئ.
-1 محلات أوروزدى باك عمر أفندى فى شارع عبد العزيز ، وهى على بعد خمس دقائق من حديقة الأزبكية مركز تجمع قوات الجيش.
-2 حريق عمارة الشواربى ، وهى على بعد ثلاث دقائق من حديقة الأزبكية.
-3 حريق محلات شملا، وهى على بعد دقيقتين.
-4 حريق محلات بنزايون على بعد ثلاث دقائق.
-5 حريق محلات شارع محمد على ، على بعد ثلاث دقائق.
-6 حريق نادى شل الرياضى، على بعد ربع ساعة.
-7 حريق كازينو الأوبرج ، وقد وقع بين السادسة والنصف والثامنة والنصف مساء.
ولكن من الغريب أن كازينو الأوبرج الذى يقع على بعد أكثر من نصف ساعة إلى ساعة من حديقة الأزبكية تحركت إليه قوات الجيش بمجرد الإبلاغ عن حريقه ؛ فوصلت إليه الساعة السابعة والربع مع قوات الإطفاء التى كانت قد أُبلغت هى الأخرى للتحرك فورًا إليه!
فى مساء نفس اليوم –26 يناير– أعلنت الأحكام العرفية.
ونامت القاهرة ليلة حزينة.
وسهر جنود الإطفاء يحاولون وقف سريان النار الذى أتى على أكبر محلات العاصمة، وانتشر فى معظم شوارع وسط المدينة.
وبدا المشهد حزينًا ، الأنقاض تسد الشوارع ، وكردونات البوليس تحيط بالأماكن التى أصبح المرور فيها مستحيلًا!
وفى مساء الأحد 27 يناير 1952 أقال الملك فاروق حكومة مصطفى النحاس باشا آخر وزارة وفدية حكمت مصر ، وكانت قد تولت الحكم فى أكتوبر 1950 ، ولعلها من المرات القليلة التى استمرت فيها هذه المدة الطويلة!
www. ragai2009.com
[email protected]