من يتأمل فى حياة البشر ماضية وحاضرة بشىء من الإمعان، يحس أنها أمواج تتدفق باستمرار، مختلفة السرعة بين الاندفاع وبين الركود.. وقلما تبقى فى حدود التوسط والاعتدال والتعقل.. ويحس أيضًا فى تأمله أن هذه الأمواج تنقطع حتمًا مع نهاية كل حى كائنًا من يكون، ولا يبقى منه إلاّ أقل القليل فى الذاكرة أو فى الكتب أو الآثار أو الفنون أو العلوم أو الآداب أو السير أو السياسة أو الصناعات والحرف أو التاريخ.. ساعدَنَا على ذلك ـ بقدر ما ـ تيار الحياة المتدفق لدى كل منا.. إذ ينسى كل منا أطوار حياته كما كان يعيشها، وذلك بمجرد انتقاله انتقالا حقيقيًا من طور إلى طور.. ولو دقق لوجد أن حركاته التى لا تنقطع تتشابه، لكنها دائمًا متغيرة من لحظة إلى أخرى.. ناهيك بالانتقالات والمتغيرات من سنة إلى سنة ومن عمر إلى عمر ومن جيل إلى جيل!
يستحيل على جيل حىّ أن يحيا حياة جيل سابق أو قديم ـ إلا حياة متكلفة غير صادقة.. ويستحيل على كل حىّ أن يحاكى حياة أبيه أو جده أو من هو أبعد من ذلك محاكاة صادقة جادة.. وتقليد الماضين هذا التقليد الأعمى ـ خرافة!، ولكن من حق كل جيل أن يأخذ بفضيلة كانت عند الماضين إن عرف كيف ينجح فى تقديمها لجيله وزمنه، أو أن يؤيد فى جيله حقيقة عرفت فى الماضى على نحو معين وأن يهذبها هو على نحو نافع يلائم حاضره وحاضر من يعيش حياته معهم.
وكان كبار أنبيائنا رضى الله عنهم وأرضاهم ـ آدميين إلى أن توفوا.. ولم يكن نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يقرأ أو يكتب الكتابة إلى أن توفاه الله تعالى.. ولم يتعلم عليه السلام العلم الدنيوى قط، ولا خاض فيما خاض فيه البشر من قبله أو من بعده من الآراء والأفكار والتصورات والمذاهب والعقائد والطقوس والقواعد والمراسم والمواسم والبناء والهدم والإقامة والسفر والإيمان والتكفير ـ لا فى مدة رسالته صلى الله عليه وسلم، ولا قبلها الذى امتد إلى أكثر من أربعين سنة قبل مبعثه عليه السلام.
فذلك وأمثاله لدى أتباع غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشريات قام وقعد عليها الآدميون حتى اليوم، على كل وجه ولون فى إمكانهم، وقلما يعرف أحد من أهل الأديان الآن معرفة جيدة صحة تاريخ دينه وتاريخ الأديان الأخرى.. هذا التاريخ الذى امتد مئات السنين وطاف فى عشرات بل مئات البلـدان والشعوب. وربما كان كل ما مع كل منا ـ مكتوبًا أو متداولاً ـ متدينين أو غير متدينين ـ مجرد نتف وشذرات من الواقع القليل الذى حصل، والكثير الغامر الذى أصله أخبار وأقاويل تناقلتها الألسن والأحاديث وتداولتها الأجيال فوثقها الزمن الطويل لدى أصحاب كل دين، وعاشت إلى اليوم كما هى دون أن يرد عليها جديد يوثقها أو يثبتها!.. أما قرب القيامة والحساب والآخرة على ألسنة الأنبياء رضى الله عنهم، فلم يتحدد قط برقم من سنى دنيانا، وما كان ذلك ممكنًا.. لأن دنيانا زائلة أصلا بخيرها وشرها ومعها اصطلاحاتها، ومقاييسها وأبعادها.. كذلك طيبات الآخرة وعذابها، فهى ليست بحال من الأحوال من قبيل طيبات دنيانا أو بلاياها، ولا يوجد فى لغاتنا ـ ما يحمل معانى الآخرة ولغتها.. وليست كلمات البشر بقادرةٍ على الوصول إليها عدا الرسل والأنبياء.. يصعب علينا أن ندرك الكون العظيم الذى يشمل دنيانا، والذى لا نعرف حدوده ويصعب علينا معرفتها، وكذا الآخرة التى ننتظرها بعد موتنا.. لا نعرف عنها شيئًا بحواسنا.. كلاهما من صنع الخالق جل شأنه.. سبحانه الذى خلقنا كما خلق كل شىء حى أو ميت فى أرضنا أو فى أى مكان فى أى زمان فى ذلك الكون العظيم! ولأن حياة البشر دائمًا تيارات وموجات يستحيل أن تتوقف كلية فى سيرها من ماض إلى مستقبل.. يشمل كل تيار موجاته واعتقاداته الخاصة، وآراءه وأذواقه التى بها يحكم على ماضيه ذاكرًا بعض ما فات ويترقب ما سيجىء.. مستعينًا بما جمع من ماضٍ إلى حاضر.. فالحاضر حاضر دائمًا والإعادة والزيادة محاولة تذكر ومحاولة توقع.. تتبادلان محاولتى التذكر والتوقع.. لا ينفصلان فى ذات كل آدمى وأناه.. وهما محاولتان سطحيتان ساذجتان من نتاج وإعراب الذات والأنا من أوائل العمر إلى أواخره.. وقد يتسع يومًا ما.. لدى الآدميين عامة ـ إدراكهم للكون الواسع، فيعلمون ويقرون ولا ينسون قط فى أية لحظة من الذى جعل ويجعل وسيجعل الأرض مهادًا والجبال أوتادًا وخلقنًا أزواجًا والذى جعل سبحانه يوم الفصل ميقاتًا.. حينئذ سوف ندرك الفارق الهائل بين سطحيتنا الآن وبين حكمة ذلك الآدمى الحكيم الذى لا يعرف حب الذات وخبث الأنا !!