منذ البداية لم يكن مخططًا لها أن تكون جمعة عادية.. كان قد وقع عليها اختيارى أخيرًا، كموعد لإجراء عملية بسيطة لتسليك وتر باليد اليمنى، مضى على متاعبه أكثر من 3 سنوات، استنفدت خلالها كل وسائل تجنب التدخل الجراحى، من كورسات حقن كورتيزون متوالية، وشتى أصناف العلاج الطبيعى، وتكفل باستهلاك باقى المدة انشغالات متعددة ومتكررة، تتقاطع مع بعضها البعض، لتشكل روتينًّا يوميًّا من الشغف، يصعب التملص منه، لإفساح حيز من الوقت لإجراءات متوالية لأزمة، كاختيار الطبيب، والمشفى، وعمل التحاليل اللازمة، وتخصيص يوم للتنفيذ، والاستعداد لتحمل قدر يسير من الألم.. لم يخطر على ذهنى بالتأكيد كل هذا الألم!
————————————————–
أراحنى نفسيًّا خبر تحديد الطبيب الساعة الثامنة مساء لإجراء العملية، فهو يقينى من شر الاستيقاظ مبكرًا فى يوم عطلتى الأسبوعية الوحيد، والهرولة إلى المشفى بعين منتفخة، لم تأخذ قسطها الكافى من النوم.
فى غضون الساعة الواحدة والنصف مساء، مارست طقس الإفاقة المتثائبة الأولى، تفحص مواقع التواصل الاجتماعى عبر الهاتف المحمول، للتعرف على أهم ما يتم تداوله من أخبار.
وكالقافز من الدار إلى النار، اسودت الدنيا أمامى، لم أميز للحظة، هل ما أقرأه على صفحات الفيسبوك وتويتر ورسائل الزملاء على الواتس آب حقيقيًّا، أم أننى بصدد هلاوس وكوابيس من يغفو بعد استيقاظ، بلا رادع من التزام قريب.
مصرع خالد بشارة وأحمد المنسى وزكية هداية فى حادثى سيارة منفصلين!
—————————————————
ساعات الصدمة وردود الأفعال الأولى على صفحات التواصل الاجتماعى، تحمل فى طياتها وبصفة خاصة حين يكون الحدث جللا -وقد كان- العديد من الظواهر المتكررة.
تعليقات تنم عن عدم التصديق، وأخرى تبادر إلى تقديم العزاء عن فقدان أشخاص ربما حتى لم يجمعها بها سابق معرفة أو لقاء، آخرون يسردون تجاربهم الشخصية مع الفقيد أو ما سمعوه عنه من قريب أو صديق.
ثم سرعان ما تتوالى ردود الأفعال الأيديولوجية..
- متواصلون اجتماعيون، يدعون أصدقاء الفقيد إلى الدعاء له بالثبات يوم الحساب، أو تخفيف عذاب القبر، أو الخلود فى الفردوس الأعلى، أو المطالبة بالتشارك فى خاتمة قرآن له.
- ولا يخلو الأمر بالطبع من استخدام عبارات من عينة «ربنا بيحبه علشان كده خده صغير» و«مع المسيح هذا أفضل جدا» أو «ادعو له فإنه يسمعكم الآن».
ما كل هذا التنطع؟!!
فهل تسنى لواحد من هؤلاء أن يسأل المنسى وبشارة عن رأيهما بشأن كل ذلك؟! أو ماذا كان يفضل أى منهما أن يفعل بشأنه المقربون له ومنه عند وفاته؟!
بالقطع لا.. ولكن ظنى أنه لو كان ذلك بالإمكان.. لكان ردهما واحدًا.. ابتسامة عريضة ضاحكة تملأ الوجه، يخيل للمرء أنها لا تتوارى قط، كأنما قد خلقا عضوياً بها هكذا.. قبل أن يلوذا بالانصراف مودعين.. لانشغالهما بعمل أهم يستعدان للحاق به.
هكذا تداعت الأفكار فى رأسى فى طريقى إلى المشفى.
——————————-——————–
أستبدل ثيابى الآن بملابس غرفة العمليات الخفيفة السماوية المعقمة.. لم يسبق لى من قبل ارتدائها، ولكن ربما يكون بشارة أيضًا، لم يسبق له أيضًا المرور بنفس التجربة -لا أعلم-، بالعكس من المنسى، الذى اعتادت عليه المشافى القريبة، كزبون دائم لنفس السبب، نوبة السكر.
بخلاف الابتسامات الدافئة الباعثة للارتياح والطاقة الإيجابية والنزول- دون أن يعرف أحدهما الآخر- إلى ميادين التحرير أثناء ثورة يناير.. يتشارك بشارة والمنسى اللذان أعرفهما فى حب الاستمتاع بالحياة، الفارق الوحيد فى هذه النقطة، أن الأول كان يجابه فقط تحدى التزامات العمل المضنية طول الوقت، بينما كان الثانى يتحدى-أو يتجاهل بمعنى أدق- مرض السكر اللعين لشاب فى مقتبل العمر، فى مواجهة قاسية تصل أغلب الوقت إلى درجة الرفض، وضرب عرض الحائط بكل تعليمات الأطباء الكلاسيكية، من ممنوعات وتنظيم للتغذية والنوم والجهد.
لم يدر بخَلَدى أبدًا أن يموت المنسى فى حادث طريق، بل كان قلقى -كل القلق- أن نفقده فى نوبة رغبة فى الاستمتاع بالحياة، أبى جسده النحيل العليل أن يتحملها.
أما «بشارة» فلم يكن سؤال الموت مطروحًا من الأساس.
————————–————————-
حالة من القلق نحاول جميعًا أن نخفيها.. أنا وزوجتى وابنى الأكبر، وأنا أتأهب للولوج لغرفة العمليات، ليس مبعثها بكل تأكيد صعوبة الجراحة التى أوشكت على البدء، وإنما شعور بالتشاؤم من إجرائها فى تلك الجمعة السوداء، تلك التى ربما قد تكون شهيتها لاتزال مفتوحة لالتهام المزيد من الموتى الذين يعشقون الحياة.
اتجاهل نبضات التوتر السائدة، وأتصنع حالة من الطمأنينة فى الطريق، اتجاذب حديثًا متباسمًا مع طاقم التمريض والطبيب المعالج، وأنا أمنى نفسى بأن يصلح معى التخدير الموضعى المعتاد عليه فى هذه الحالة، عوضا عن اللجوء -وهو أمر نادر- إلى الكلى.. ببساطة أريد أن أبقى واعيًا، أولا لرغبتى لمزاولة عادة التأمل التى يشكو منها أغلب من حولى، وثانيًا للمراقبة تحسبًا للمفاجآت!.
لم يحظ كل من «المنسي» و«بشارة» بأى وقت للتأمل قبل الوفاة، حادثة سريعة لم تدر بخَلَدهما، لا أعرف على وجه التحديد إلى أين كان يذهب الأول قبل أن تصدمه شاحنة الموت، فى حين أعلم يقينًا أن زميلتنا زكية هداية كانت تصطحب الثانى فى سيارتها إلى الإسكندرية، لحضور حفل زفاف يتبقى عليه يومان، لزميلنا الثالث أحمد عواد، ومساعدته فى الترتيبات النهائية.. ويا لها من مفارقة!
فيما بعد علمتُ أن عواد قد قضى اليومين المتبقيين على عرسه ما بين مهمة إبلاغ الأهل بخبر الوفاة المشئوم، والمساعدة فى إجراءات تسلم الجثمانين، ولك أن تتساءل عن معاناة عواد بعد ذلك، فى محاولة تقمص دور العريس السعيد أمام عروسة لا ذنب لها فى كل ما يجرى.. ومع ذلك لا يعدو ذلك إلا أمرًا هينًا، إذا ما قورن بكشف حساب الخسائر الباهظة الختامى، ليوم الجمعة الدامى.
—————————————————————-
حاولت الممرضة الجالسة بجوار رأسى الذى أشحت به للناحية اليسرى، كى لا يفزعنى مشهد الدماء التى تغلف يدى اليمنى محل الجراحة الجارية.. أن تكسر حاجز الصمت، سألتنى بلطف، وقد وضعت أناملها فى وضع الاستعداد للمس شاشة هاتفها المحمول: تحب تسمع إيه؟
سؤال وكأنه سقط فى رأس يملأها الفراغ، أو بمعنى أدق رأس لا فراغ فيه، سوى لما يتصارع فيه من عشرات التفاصيل والتداعيات المتشابكة.. احتجت بضع ثوانٍ للإجابة: لا أرغب فى سماع شيء محدد.. سكتُ ثم تهورتُ فى يأس المتشبث بالحياة: لما لا أغنى أنا، وباغتها برفع صوتى بصعوبة شديدة، مرددًا للمقطع الأول من أغنية »besame mucho« وهى أغنية إسبانية معروفة، يحلو لى أن أرددها دائمًا، كلما لاح الاكتئاب على الأبواب لتشعرني بالبهجة.
تملكنى العار، ليس فقط باقتراحي فكرة الغناء، ولكن بالمجاهرة به، بصوت خرج رغمًا عنه يفتقر إلى أى إحساس.. فسكت.
لا أستطيع أن أتصور اللحظات الأخيرة للمنسى وبشارة فى سياراتيهما دون استمتاعهما بالاستماع إلى نوع من الموسيقى، هكذا يجب أن يكون، من أجلهما، لا من أجلى.
————————————-———————–
منذ اللحظات الأولى لتأسيس جريدة المال- بل وحتى أثناء الترويج لتأسيسها- لم يكن متخيلًا عدم البحث عن صيغ التعاون مع «لينك دوت نت» التي أسسها بشارة فى أواخر التسعينيات على ما أذكر، كأبرز شركات تقديم خدمة الإنترنت حينها.
عقدنا عدة اجتماعات مع فرق العمل التى أوكل لها هذه المهمة سواء أثناء قيادته لها، أو فيما بعد عندما انتقل إلى أوراسكوم تليكوم.. وفى كل مرة كان يبدأ الأمر بمكالمة منى أو منه، يحرص فيها على ترديد عبارة: أنا عايز أشتغل معاك، فأرد: وأنا كمان عايز اشتغل معاك.. حتى تحول الأمر إلى «إفيه» نتبادله ضاحكين فى أى مناسبة عابرة.. حتى فى ظل -أو ربما بسبب- أن جميع هذه المحاولات، قد أجهضتها اجتماعات فرق العمل من الطرفين.
للأمانة لم يكن المنسى مَن سعى للعمل معى، نصح به الصديق عمرو العراقى، لإدارة مشروع جذري يشمل تغيير بنية الموقع الإلكترونى، بعدما استعنت بالعراقى نفسه لتقديم دورة تدريبية حول المحتوى الرقمى لإدارة التحرير للجريدة، ضمن دورات متعددة قام بها آخرون معه.
فى البداية دار صراعي مع هذا الشاب السكندرى النحيف حول إقناعه بمبدأ البقاء والاستقرار وبناء المؤسسة، فى مقابل تصور يسيطر عليه هو وأقرانه، من ضرورة التنقل من مشروع لآخر، وعدم الاكتفاء بالعمل بمكان واحد.
فى نهاية الأمر اقتنع، لنبدأ معًا رحلة كفاح -نجحت أحيانًا وأخفقت في معظم الأحيان- لإقناع باقي الفريق، أنجزنا معًا ومع باقى الزملاء فى الجريدة العديد من المهام، وكانت الخطة تكتظ بالعديد من الأحلام المؤجلة، لم تشأ إرادة الجمعة الدامى، إتاحة المزيد له من الوقت ليشارك فى إنجازها.
نعم.. أحببتُ المنسى، كابن أكثر من كونه مجرد زميل، ربما لأنه كان يتقبل ويسعد بإسدائى النصح له، عكس ما أبداه من ضجر مئات ممن مروا بى.
ولكننى تيقنت أكثر أننى أحببته، وأنه كان يَسعد بنصائحي، لأنه مثلي ومثل «بشارة».. من هؤلاء البشر الذين يعشقون متعة الحياة، حتى ولو لم أكن أمتلك مثلهما، هذه الابتسامة الضحوكة الربانية، التى تضيء الحياة للآخرين.
لقد عدتُ سالمًا إلى المنزل.. ولكنى سأفتقد كثيرًا العمل مع المنسى، والأمل فى العمل مع بشارة، أو حتى متعة التلويح بذلك.