ما وصلت إليه البشرية لم يكن ثمرة آحاد فقط.. وإنما ناتج عطاء تجمعات آدميين هنا وهناك.. وهم الآن بالألوف فى معظم بقاع الأرض.. يخلف ميتهم حيُّهم ليصحح ما يستطيع تصحيحـه، ويرى ما لم يتيسر له السبيل إلى رؤيته لغيره ممن سبقوه.. سواء لعدم الفرصة، أو لنقص الأداة، أو لهما معًا! هذا كله يعنى أن الفهم والعقل والمثابرة والإلحاح فى البحث والتقليب والتجريب ـ لا تحتاج معًا لا إلى طول العمر ولا سعة الحجم ولا بعد المسافة ولا شدة السرعة بالغة ما بلغت ولا خفاء القوى التى لم يلحظها من قبل سابق.. جاذبة كانت أو طاردة.. مضيئة أو غير مضيئة.. متمددة أو قابضة !
فالآدمى على ما عرف فيه من خبث وجشع وشيطانية ـ فيه أيضا شىء ربانى يأخذ به وبيده وفهمه إذا التفت إليه.. يأخذ به إلى أعلى وإلى أوضح وإلى أعمق وإلى أبعد وأعجب مما اعتاد عليه.. وهو إلى اليوم دائم الترنح ـ على ما فيه من تلك الشيطانية المعتادة التى تجره إلى الانحطاط.. يترنح بين كثرة الجهل وقلة العارفين، وبين الاندفاع فى الأطماع وقلة الأمناء الصادقين المتواضعين، وبين كثرة أهل الشر وندرة البررة الخيرين !.. فهل يمكن أن تنعكس هذه الحال ـ قبل أن يلتهم الدمار الشامل حاضر البشرية كلها بكثرة أشرارها وقلة خيارها؟!
نحن إلى الآن فى مجموعنا أينما نكون.. لا نكف عن تبديد قوانا العقلية والبدنية فى خدمة العواطف والغرائز.. قليل القليل منا من يقتصد فى استخدام عقله وصحته ويتنبه لعدم تفريغها وإضاعتها فى خدمة عواطفه وغرائزه !..
لا نبالى بما نضيعه ونبدده من الأوقات والفرص القيمة وما نهدره ونفرط فيه من الجهود والأموال والعلاقات الطيبة.. وأيضًا من الأعمار التى يعرف كل منا أنها حتمًا إلى نهاية !.. اعتدنا حتى الآن على تبذير الحياة والمغامرة بها، وعلى تفضيل الشهوة برغم مكابدتنا لأضرارها وخسائرها بدنية أو مالية أو عقلية.. كأنَّ الحياة فى كل منا لا أول لها ولا آخر.. وكأنَّ كلاّ منا هو الصانع لحياته بدنًا وروحًا وعقلاً !!.
ونحن فى هذه الدنيا وقتيون فقط.. سواء فى المجىء والحضور إلى الدنيا، أو فى الغياب والزوال منها.. ولكن شعورنا الحاد «بالأنا» يعطى لكل منا وهمًا أنه هو كل شىء فى دنياه أولاً وآخرًا.. لا فرق بين حاكم ومحكوم وغنى وفقير ومالك ومأجور.. هذه «الأنا» الفردية ـ هى نقطة البداية والنهاية فى حياته !.. ولهذا لا يتساوى الآدميون فى «أنا» كل منهم قط !.. مهما اجتهد الآدمى فى الحرص على التساوى فى هذه الدنيا، فالآنا هى راية تفرد كل آدمى ووحدته التى لا يشاركه فيها والد أو ولد.. إذ القرابات تنطلق بداهة من حيث الأنا.. بيد أن لكل فرد مهما بلغت قرابته «أناه» الخاصة فى المصطلح الاجتماعى.. الآدمى أصلاً وفصلاً حىّ اجتماعى، وإنما فى حاجة لكى يبقى إلى آخر أو آخرين تحقيقًا لهذه الغاية أو تلك من ضروراته أو من لوازم حياته هو بالذات.. معتكفًا كان أو ناسكًا أو كاهنًا، متجردًا أو راهبًا أو ناذرًا الخلوة الأبدية، أو كارهًا الخلق يباعدهم ويتحاشاهم.. فمهما تكن شدة هذه العزلة أو ذلك الاعتزال والانفراد، فلم يخلْ قط من اللغة التى تعلمها صاحبها من قبل، ولا من الأخذ والعطاء فيما يحتاجه من القوت والمأوى والكساء ولم يزدد فى العدد والعدة بل لعله قد قل!
ووعى الآدمى- فيما يبدوـ دائب التقلب والتنقل باستمرار.. من شىء إلى شىء، ومن مراد إلى مراد، ومن معنى إلى معنى.. يجرى ذلك بحسب تقلبات عواطفه وآماله ومخاوفه وأطماعه وتدخلات، وكذا تقديرات ما تسمح به النفس أو الأنا لعقله على درجة ما بلغه من دراية وغاية !.. وغالب الحال على نفوس الناس. هو موالاة «الأنا» وتلبية مرادها لا مراضاة العقول التى نادرًا ما يستجاب لها إن نصحـت بما تأباه النفوس !.. والعجيب أن هذا الخضوع متسرب حتى فى النشاط العلمى والمعرفى والأدبى والفنى فى صور الآراء والحلول والنظريات والاقتصادات لدى الآدمى!