على مدار العقد الماضي دخلت إسرائيل عالم الدول الغنية بالطاقة عقب اكتشافها حقولًا ضخمة للغاز في مياه البحر المتوسط باحتياطيات هائلة تتجاوز كثيرًا طلباتها المحلية، ومنذ ذلك الحين وجدت تل أبيب نفسها في دوامة المفاضلات بين أنسب الطرق لتصدير فوائضها الغازية.
وتصدير الغاز من إسرائيل مهم لها بنفس درجة أهمية الاكتشافات، إذ ترغب الشركات العاملة في حقول الغاز المتوسطية في تسريع عمليات استخراج الغاز وبيعه لتغطية نفقاتها وتوفير الربح لمساهميها وتمويل عملياتها المستقبلية.
أبرز حقول الغاز المكتشفة في إسرائيل:
في يونيو 2013 فرضت الحكومة الإسرائيلية قيودًا على صادرات الغاز، بحيث يتم قصر التصدير على 40% فقط من الاحتياطيات والاحتفاظ بـ60% للأجيال القادمة، لكن المتاح للتصدير ظل ضخمًا وضغط على الشركات لسرعة تصريفه، خاصة أن سكان إسرائيل البالغ عددهم 8.5 مليون شخص يستهلكون سنويًّا أقل من 1% من الغاز الموجود في مياه البلاد.
الخيار الأول للتصدير أمام إسرائيل كان الأسواق المجاورة، وهو ما أنجزته تل أبيب عبر توقيع عقود لتصدير الغاز إلى مصر والأردن.
عقود تصدير الغاز الإسرائيلي:
ورغم تحقيقها تقدمًا كبيرًا في هذا الملف، حيث سيتم ضخ الغاز إلى الدول المجاورة في يناير الحالي، فإن انخفاض كثافة استهلاك تلك الأسواق للغاز كان محورًا رئيسيًّا في تفكير تل أبيب التي تسعى للوصول إلى أقرب سوق ضخمة لها.. أوروبا.
دوّامة الخيارات ظهرت بوضوح في هذه المرحلة، إذ ليس أمام الغاز الإسرائيلي سوى 3 طرق ليسلكها متجهًا إلى القارة العجوز، إما عن طريق تركيا أو مصر، أو عبر قبرص واليونان، ورغم أن الخيار الأخير بدا الأصعب والأكثر تكلفة لكنه الآن أقرب للواقع.
في 2 يناير الحالي، وقّعت اليونان وقبرص وإسرائيل اتفاقًا لمدّ خط أنابيب تحت البحر بطول 1900 كيلومتر لنقل الغاز الطبيعي (الأطول في العالم تحت البحر) من منطقة شرق البحر المتوسط إلى أوروبا.
وبحسب رويترز، تهدف الدول الثلاث للتوصل إلى قرار نهائي بشأن تفاصيل الاستثمار في 2022 وإتمام خط الأنابيب بحلول 2025.
وخط الأنابيب المعروف باسم “إيست ميد” تتراوح تكلفته بين 6 و7 مليارات دولار، ومن المتوقع أن ينقل مبدئيًّا 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًّا من إسرائيل والمياه الإقليمية القبرصية، مرورًا بجزيرة كريت اليونانية إلى البر اليوناني الرئيسي، حيث يتصل بخط غاز “بوسيدون” الذي يربط اليونان بإيطاليا ثم شبكة أنابيب الغاز الأوروبية.
تركيا خارج اللعبة؟
كان خيار تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا هو الأسرع والأقل تكلفة، لكن العلاقات المتوترة بين تل أبيب وأنقرة بدّدت هذا الخيار.
لم يكن الأمر يحتاج سوى لمد خط أنابيب تحت البحر من حقل ليفياثان إلى الساحل الجنوبي لتركيا التي تمتلك بالفعل شبكة ضخمة من الأنابيب التي تربطها بأوروبا.
التقديرات كانت تتحدث عن خط أقصر كثيرًا، وتكلفته 2.5 مليار دولار فقط، مع إمكانية نقل 16 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا.
ورغم جاذبية الطريق التركي كوسيلة رخيصة لتوصيل كميات كبيرة من الغاز إلى عميل رئيسي، فإن تل أبيب استبعدت هذا الخيار في ظل مخاطره السياسية.
وعلى النقيض يمكن أن تتحول تركيا إلى عقبة في وجه خط “إيست ميد” بعد أن أبرمت اتفاقًا لتعيين الحدود البحرية في المتوسط مع ليبيا.
ونقلت رويترز عن محللين قولهم إن الاتفاق قد يشكل عائقًا أمام خط الأنابيب المقترح الذي سيتعين مروره عبر المنطقة الاقتصادية التركية- الليبية المزمعة.
حلم مركز الطاقة الإقليمي في مصر
في أغسطس 2015 اكتشفت مصر أكبر حقل غاز في تاريخها وفي البحر المتوسط، وباحتياطيات قدرت بـ30 تريليون قدم مكعب أصبحت مصر قادرة على أن تحلم.
لدى مصر حلم معلن بأن تتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، والرؤية النظرية لهذا الحلم تقول (بحسب موقع هيئة الاستعلامات المصرية) إنه بوسع مصر أن تكون نقطة التصدير المركزية لغاز شرق المتوسط بالكامل، سواء من حقلها الضخم “ظهر”، أو من حقول إسرائيل وقبرص إلى أوروبا.
لم تدّخر مصر جهدًا لتحقيق حلمها حيث انطلقت في جميع الاتجاهات وأبرمت عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم لتنفيذ المهمة.
الحلم المصري ارتكز بشكل محوري على ما يتوفر لديها من بنى تحتية تتكون من خط غاز تربطها بإسرائيل (يربط بين عسقلان في إسرائيل، والعريش في مصر)، فضلًا عن محطتين لإسالة الغاز (في إدكو ودمياط) يمكن أن يكونا نقطة تصدير لأوروبا.
محطتا الإسالة على وجه التحديد كانتا العنصر الأبرز في التفوق المصري، إذ يمكن لهما تسييل الغاز القادم من إسرائيل وقبرص، وشحنه في الناقلات البحرية إلى أوروبا.
كما جعلت محطتا الإسالة من مصر المركز الوحيد الجاهز لتصريف غاز شرق البحر المتوسط إلى أوروبا والعالم.
وتبلغ قدرة التسييل لدى محطة دمياط (المعطلة حاليًّا بسبب مشاكل قانونية) نحو 7.56 مليار متر مكعب سنويًّا، فيما تبلغ قدرات محطة إدكو نحو 10 مليارات متر مكعب سنويًّا.
ولا يمكن لإسرائيل بناء محطة إسالة خاصة بها في ظل المعارضة العامة “بيئيًّا” لخطط إنشاء مثل هذه المحطة على الخط الساحلي الصغير المكتظ بالسكان في البلاد، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز.
وفي سبيل حلمها، أُعلنت مصر عن صفقة (قطاع خاص) لاستيراد الغاز الإسرائيلي بكميات ضخمة (التوقيع تم بين تحالف بقيادة شركة ديليك الإسرائيلية وشركة دولفينيوس المصرية)، وقيل إن جزءًا من الواردات سيوجه للسوق المحلية، بينما سيذهب بقية الغاز إلى أوروبا.
كذلك وقّعت مصر مع قبرص اتفاقية لإنشاء خط أنابيب بتكلفة مليار دولار يربط حقل غاز أفروديت “أضخم حقول الغاز القبرصية” بمحطات تسييل الغاز في مصر.
ولم تعلق أي دولة من الدول الثلاث حتى الآن على تأثير خط “إيست ميد” على الخطط المصرية، وبالتحديد مدى جدوى خط الغاز القادم من قبرص التي ستصبح قادرة على توريد الغاز مباشرة إلى أوروبا عبر خط “إيست ميد”.
أما عن صفقة الغاز مع إسرائيل فتبدو منطقية لتل أبيب التي ستصدّر بموجب الاتفاقية (بعد تعديلها) 85 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى مصر، مقابل 20 مليار دولار على مدى 10 سنوات تنتهي في 2030، وفقًا لموقع هيئة البث الإسرائيلية.
وعلى موقعها تقول وزارة الطاقة الإسرائيلية إن خط “إيست ميد” سيبدأ في 2025 بنقل 10 مليارات متر مكعب سنويًّا إلى أوروبا، قبل أن تزيد تلك الكمية لاحقًا إلى 20 متر مكعب سنويًّا.
هل خط “إيست ميد” واقعي؟
يواجه خط “إيست ميد” تشكيكًا كبيرًا من الخبراء.
في أغسطس 2019 قالت مجلة فورين بوليسي إن تكلفة خط الأنابيب سترفع من سعر الغاز الإسرائيلي عندما يصل إلى أوروبا، ومن ثم لن يصبح هذا الغاز جذابًا للمشترين.
ورغم أن المشروع يحظى بدعم سياسي قوي؛ ليس فقط من إسرائيل واليونان وقبرص، ولكن أيضًا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن تكلفته الباهظة عائق رئيسي، كما ترى “فورين بوليسي”.
وأوضحت المجلة الأمريكية أن تكلفة استخراج الغاز من حقل ليفياثان تتراوح بين 4 و5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية (وهي تكلفة مرتفعة مقارنة بحقول الغاز الأخرى)، وعندما يصل هذا الغاز إلى المستهلكين الأوروبيين سيكون سعره أعلى.
وتقع احتياطيات الغاز بحقل ليفياثان في خزانات عميقة، ما يجعل استخراجها وتطويرها باهظ التكلفة.
وأضافت: “يمكن أن يصبح خط أنابيب إيست ميد قابلًا للتطبيق تجاريًّا إذا تجاوز سعر الغاز الطبيعي في أوروبا حوالي 8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وهذا الرقم أعلى بكثير من متوسط السعر المتوقع خلال السنوات العشر المقبلة عند 6.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.
وبحسب بلومبرج، يبلغ سعر الغاز الطبيعي حاليًّا (في بورصة نيوريورك) 2.12 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.
وقالت فورين بوليسي إن محطتي الإسالة في مصر هما الخيار الأنسب حاليًّا في ظل انخفاض تكاليف الإسالة.
من جانبها قالت صحيفة نيوريورك تايمز إن توقيت المشروع يمثل مشكلة أخرى لـ”إيست ميد”.
وأوضحت أن الوقت الحالي يشهد تدفقًا هائلًا من الغاز الرخيص الذي تضخّه الولايات المتحدة وأستراليا وقطر وروسيا.
أما حجة تأمين إمدادت الطاقة لأوروبا وخفض اعتمادها على الغاز الروسي فلن تجد آذانًا صاغية من المستثمرين الراغبين في الربح، وفقًا لصحيفة “قبرص ميل“.
وأوضح نيكوس رولانديز، وزير الخارجية القبرصي السابق، في 5 يناير الحالي، أن خط الأنابيب رغم تكلفته الباهظة لن يوفر سوى 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًّا، في حين تبلغ الاحتياجات السنوية للاتحاد الأوروبي 470 مليار متر مكعب يتم توفيرها بشكل أساسي من قِبل روسيا.
وتوفر روسيا من خلال شركة غازبروم العملاقة للنفط والغاز37% من إمدادات الغاز في أوروبا، وفقًا لموقع “ذا كونفيرسيشن”.
وتابع رولانديز: “لا يمكن بشكل واقعي وصف خط أنابيب يغطي 2% فقط من احتياجات أوروبا بأنه بديل آمن”.
وأوضح أن الكمية الضئيلة في حد ذاتها تثير تساؤلات حول مدى جاذبية المشروع للمستثمرين، فضلًا عن أسئلة أخرى تتعلق بالأعماق السحيقة في البحر التي سينشأ خلالها الأنبوب.
وسيصل عمق الأنبوب في بعض أجزائه إلى 3 آلاف متر تحت البحر.
وأضاف رولانديز: “ما احتمال رغبة المستثمرين في تنفيذ هذا المشروع بالنظر إلى التهديدات والإجراءات غير القانونية لتركيا في المنطقة؟ مَن الشركة التي ستنفق 6 مليارات يورو في مشروع يمر بجزء من منطقة نزاع خلقت فيها تركيا حالة من عدم الاستقرار وعدم اليقين خلال العامين الماضيين؟”.
وتابع: “(الرئيس التركي رجب) أردوغان أثبت مرارًا تجاهله للقانون الدولي”.
وأضاف: “علينا أن نرضى في الوقت الحالي بما تم إنجازه من توقيع لاتفاقية خط أنابيب إيست ميد، لكن هناك طريقًا طويلًا للغاية ينتظرنا قبل التنفيذ.. هذا إن تم التنفيذ أصلًا”.
وقال أليكس لاغاكوس، نائب مدير “منتدى الطاقة اليوناني” لدويتشه فيله، إن التوافق على المشروع لا يعني توفير رأس المال الضروري لتنفيذه.
واستبعد لاغاكوس حصول المشروع على مساعدات أوروبية، في ظل إنحاب القارة العجوز من الاستثمار في موارد الطاقة الأحفورية والمراهنة على مشروعات طاقة خضراء.
وتابع: “الخلاصة هي أنه يجب تمويل أنبوب إيست- ميد من جهات خاصة، وهذا سيكون صعبًا”.