جميع ما نسميه بيننا تلقائيا أو تقليدا فى دنيانا، مجادلات بشرية ومتتابعات ومجرد اعتقادات رضيها كل منا قديما أو حديثا. تركها بعده من ذهب أو استبدلها من غَيّر وبَدّل وما زال حيا رزق.. إذ كل آدمى حىّ يظن دائما أنه قلما يتغير أو يتخلى عن ثباته بينما هو فى الحق يتغير باستمرار فى مسائه عن صبحه كل يوم دون أن يدرى..لأن الأنا لدى كل آدمى، تخفى شعوره المستمر المتوالى منذ ميلاده حيا إلى انقضاء عمره الدنيوى الذى امتد إلى الطفولة ثم الصبا ثم ما تلا ذلك من مراحل الحياة البشرية التى تنتهى إلى النهاية بالموت الحتمى الذى ليس منه مفر.. بين هذه وتلك مسافة زمنية امتدت ما بين الميلاد الحى إلى نهاية العمر المكتوب لهذا الحى.. فالآدميون لا يعيشون دنياهم، إلا امتداد أعمار كل منهم.
وهى مقاييس تلك الأعمار الخاصة بكل منهم التى لا ينقطع حصولها يوميا فى كل جماعة بنسب لا تتزايد إلا فى المآسى والحروب والمصائب والمجاعات وفى خلاف ذلك.. عادة لا يبالى البشر فى الماضى والحاضر بنسب الموتى المألوفة لأنها لا تتعدى الحدود المعتادة المعتدلة فى أزمنتها مع التسليم الذى لا خلاف عليه قط ـ بزوال كل حى مهما طال عمره، وذلك لتداخل أعمار البشر من أول الدهر حتى اليوم والغد.
فلم ولن توجد جماعة بشرية متساوية الأعمار قط إلاّ وقتيتها.. فالمغايرات فى أعمار البشر حتمية من أول الدهر، ولم تختل هذه المغايرات حتى الآن.. ولذا دام الجنس البشرى نتيجة دوام اختلاف الأعمار فى كل جماعة ماضية أو حاضرة أو مستقبلة مادام البشر محصورين فى هذه الأرض لا يقوون على مفارقتها لا إلى كواكب الشمس ولا إلى الفضاء الكونى الهائل الموجود.. هذا الكون الذى لا حدود لأعماقه وسعته بشموسه وكواكبه وأجرامه وآفاقه وأبعاده التى لا نرى على البعد البعيد حتى الآن إلا بعضها فقط.
وذلك فى حدود قدرتنا على معرفة الأبعاد والأحجام والمناظير والرؤى عن بعد هائل بالنسبة إلينا نحن البشر الأقزام فوق أرض وجدنا فيها أولا عرايا ثم حاولنا تدريجيا أن نخفى عرينا ما استطعنا، وبعد ذلك أخذنا نتيه كل بقدرته ومدته ومكانه وما اقتناه.. ثم نشأت الحكومات والحكام والسيادة والملكية والغنى والفقر والرقى ومحاولة بلوغها ثم عالم البشر الذى نتخبط الآن فى متاعبه ونكباته ومآسيه ويأسه.
وما نحاوله من هذا الإخفاء مع كثرة انعقاد مجالس الأمن ومجالس العضوية التى لا تكاد الآن تترك أية دولة من دول الأرض.. واليوم قد انتهى هذا بقضه وقضيضه إلى مجرد شكل أو صورة أو حيلة فقدت حتى أداء رسم كل منها من شدة الاسترخاء والخمول، ولم يعد فى استطاعة الهيئات والمنظمات الدولية التى أمل فيها المجتمع الدولى تحقيق ولو شىء من العدل ـ لم يعد فى استطاعتها أداء وظيفتها بحرية وتأثير لأنها غير قادرة على استخلاص إرادتها من هيمنة الكبار الذين يتحكمون فى الإنفاق وفى تعيين أو استمرار وبقاء من تبوئهم رئاسة أو سكرتارية هذه المنظمات التى زال منها الآن وبعد مضى ما يزيد على خمسين سنة معظم معناها وأهميتها والتفات شعوبها إليها.
فلم يبق منها بعد هذه السنين ـ إلاّ الاجتماعات السنوية والالتقاءات الشهرية، وصار ذلك كله حال كثير من الأنشطة البشرية التى اكتفت بشكلٍ لا يكاد يحرك شيئًا كثيرًا.. فقد مات مع الماضين ما كان لديهم ومعهم، وزال بزوالهم وحل محلهم ما بات مع الأحياء متصلا بحاضرهم متحركا باستمرار.. لا يكف تحركه سائرا من أمسه إلى يومه ثم إلى غده بلا التفات جاد إلا للحياة وتسلسلها ثم انقطاعها الأخير.
إذ بات كله ماضياً فقط انتهاءً وابتداءً.. لا ينظر إليه الأحياء إلا نظرتهم الحية للماضين أمواتاً لم يعد لهم وجود بعد.. فأى ميت جديد مهما كانت جدته أو قديم أيما كان قدمه.. لصيقًا لأهله أو غير لصيق ـ لا عودة له قط إلى دنيا الأحياء.. إذ لا قدرة للأحياء على الاتصال بالأموات ولا بحياة أهل الآخرة ونصيب أولئك المكتوب لهم من الآمال أو من الخسران تبعاً لما قدموه أو لم يقدموه فى دنياهم وأسدل بعده الستار بانقطاع حياة الراحل بالدنيا إلى حيث موازين أعماله فى الآخرة التى لا يتصل بها الأحياء إلاّ رمزًا !
www. ragai2009.com
[email protected]