من تراب الطريق (765)

رجائى عطية

8:59 ص, الأثنين, 30 ديسمبر 19

رجائى عطية

رجائى عطية

8:59 ص, الأثنين, 30 ديسمبر 19

منذ وجد الآدميون حتى اليوم والغد ـ لا يلتفت كل واحد منهم أولا إلا إلى نفسه.. ثم إلى من يعتبر أنهم فى حكم نفسه.. ثم إلى جماعته فى زمنه ومكانه صغيرة كانت أو غير صغيرة.. يظن أنها باقية كما هى من بعده لا يغيرها زواله.. يغلب عليه هذا الظن لأن من يخلفه يحل محله من بعده.. وهذا غير صحيح فى الجملة.. لأن الحى لا يخلف من مات قط إلا ابتداعا وتخيلا وأملا أو رجاء.. إذ موت الميت دائما حقيقة يحاول الحى كتمانها إن استطاع، فالميت قد انقطع وجوده إلى غير رجعة بخروجه من دنيا الأحياء نهائيا بلا عودة إليها.

وهذا لا يحول دون إطالة عمر هذا الآدمى أو ذاك عن عمر غيره، كما لا يمنع من إطالة أعمار أحياء بأسرها باطراد وتتابع عن سابقيها بسبب الوقوف بهذا الجيل أو ذاك على أسباب تزيد فى مدة بقاء الحى بعامة.. لكن لا تبقى نفس الأحياء دائمًا وأبدًا قط.. إذ هى حتما زائلة من دنياها كما كانت قبل مجيئها.. كل فى المقسوم لها ظهوراً ثم اختفاءً أو عدمًا !

فما يوجد منا فى زمانه هو دائما بعض ما قد وقع لكى يكون موجودا فى الأمد المحدود لبقائه فعلاً قبل زواله.. فما وجد فى الماضى وزال أو ظل باقيا فى عمره المكتوب له، وما قد يوجد فى المستقبل إن تحقق ذلك، هو دائما بعض ما خُلق أو ما سُيخلق، ليس إلا.. وهو ما يخفيه كل آدمى من أول الدهر حتى الآن حتى لا يشوه الوجود العام المستمر للآدميين الوقت الذى يعيشه كل آدمى عمره المحسوس المعدود الأيام والسنين البشرية، ولا وجود له غيره فى دنياه الزائلة حتما برغم انتقالها من ميت إلى حى أو من حى إلى حى آخر.. لأن جماعاتهم لا تفارق الأحياء قط ولا تحفل بالأموات التفاتًا دائمًا منها إلى وجود الأحياء.. دون مبالاة ببقاء فردية هذا الفرد أو ذاك.. لأنها تنتهى نهايتها حتما بزوال كل حى عند حلول أجله الذى لا مفر له منه !

فالفرد الحى لا يعيش إلا عمره هو من ابتدائه إلى انتهائه.. لكن الحى الموجود يحل بقدر ما كتب له بقاؤه محل الذى انتهى أجله وخلا مكانه.. تشابه أو لم يتشابه بالموجود الحالى.. إلى أن يختفى بدوره ويجىء غيره حىّ آخر فى دوره الخاص وهكذا، فى ظل مجىء ثم زوال آدمى دنيوى يأتى لكى يذهب إلى غير رجعته الدنيوية بين هاتين النقطتين !

وهاتان النقطتان لا مهرب من أيتهما لكل آدمى كان ويكون وسيكون فى دنيانا كما عرفناها.

وغير الآدميين من الأحياء ممن عرفناهم بالملازمة أو الاتصال أو الابتعاد، خلال وجودنا على هذه المسكونة إما تدريجيا وإما مصادفة أو استكشافا وتبعا وتحقيقا داخل كل منا وخارجه، وما لم نعرفهم حتى الآن فى أعماق هذه الأرض فى اليابسة والماء، وهو ما لفت بعض أنظار البشر اليوم إلى وجود أحياء لم نعرفها بعد، تعيش وتموت دواليك دون حاجة إلى الهواء والأجواء التى لا نستغنى نحن عنها قط.. وقد تقدم الآدميون وتأخروا فى نفس الوقت إلى اليوم والغد.. وحياتهم محدودة وقتية تجمع بلا انقطاع بين طول البؤس واليأس وقصر البهجة وقلة عدد السادة والأثرياء فى نسبة كل جماعة.. منذ عرف البشر معانى الجماعات واتصالاتها الجزئية ـ قلة وكثرة ـ بعضها ببعض وتوالى حياة أفرادها وموتهم دون أى خلل أو توقف.. هذا التوالى بعامة، لم ينقطع من أوله الذى لم يعرفه أى منا بيقين، حتى اليوم.. ممتد لم يفقد اتصالاته السطحية الوقتية التى لا أول لها ولا آخر، كما لم يفقد تكرار خصوماته هشة أو عميقة ـ مفاجئة أو مزمنة حادة أو متأصلة مورثة ـ دون أن يفارق البشر سطحيته التى تتغير وتختلف أنواعها وأشكالها باستحسان أو استقباح كل جيل.. وهذا أو ذاك يجرى بحسب اطراد اتساع أو ارتفاع المدن والقرى أو اطراد ضيقها وانخفاضها مع زيادة الآلات والأدوات والتراكيب والعناصر والذرات وأعاجيب إيجابياتها وسلبياتها دون أى اختلاف أساسى جوهرى فى بشرية البشر بعامة بالتحضر أو بعكسه.. لأن الخلاف بينهما لا يتجاوز برغم الابتعاد المتكلف المفروض، مجرد الوهم والتصور فقط.. لأن الموت يزيل وجود الحى من دنياه نهائيا ولا تبقى إلاّ أخراه وهذه فى يد الخالق جلّ وعلا وحده.

www. ragai2009.com
[email protected]