يستطيع كل من تأمل فى واقع الخلق والحياة، والابتكار والإبداع، أن يلحظ أن كل ذلك لا يجرى خلقًا لماضٍ ذهب وانعدم، وربما ترك آثاره، ولكنه يجرى للحياة القابلة المستقبلة.. وجود الآدميين أنفسهم على الأرض.. جاء دائما كفعل متقدما مباشرة إلى مستقبل شديد القرابة وليس إلى ماضٍ مسبوق قط.. إذ كل مستقبل إن بدأ يبدأ من طارئ حاضر يضعه آدميون، يتبعه مستقبل آخر بحاضر.. وهكذا.. بطيئا كان فى نظر الآدمى أم سريعا.. فلم يبق استمرار ماض تام حقيقى أبدا فى حاضر أو مستقبل.. إذ يحكمه الزمن الممتد المتولى إلى الأمام لا إلى الخلف دائما!
فكل آدمى ابن زمنه ووقته فقط حتى إذا تخيل أنه يعود فى حاضره إلى ماضيه المعين فى ذهنه.. فيستحيل أن يرجع الآدمى إلى آدمى قط لأنه يوجد لكى ينتهى، من جنينه إلى خروجه إلى طفولته ثم إلى صباه ثم إلى شبابه فرجولته فكهولته ثم شيخوخته منحدرًا فى الضمور إلى أن تنتهى حياته من دنياه نهائيا.. لا عودة ترجى إلى دنياه بعد انتهاء تواليها فيه هو، ولا تنتقل بطابعها هى إلى سواه.. لأن هذا الانتقال أصلا وفصلا محال، ولكن قد تتشابه مشابهات ـ قرباً أو بعداً ـ فى أقارب قريبة أو بعيدة وأحيانا قد توجد فى أغراب.
ولذا يدعى أفراد الآدميين من أول الدهر كل منهم باسمه الذى اختير له من أبويه أو منه هو حين يختار هذا التغيير هو نفسه مرة واحدة أو مرات مع احتفاظه بأناه هو الخاصة به التى لا يشاركه فيها غيره إلى نهايته.. هذه « الأنا » أو الذات التى هى مركز أنانيته المنتشرة دائما فى وجوده الخارجى ورأيناها تزداد زيادة كثيفة خلال القرون السبعة الأخيرة لزمن العالم فى مسيرة تلك القرون ارتفاعا وهبوطا وأملا ويأسا وانتفاخا وانكماشًا.
وهذا التذبذب قد بالغ فى الترنح الكئيب وبتنا اليوم فى أشد الحالات والحاجات لاتصالنا الدائم التمدد والتقرب والاستفادة الجادة النشطة المستمرة بالمجال الشمسى كله وبكواكبه وملحقاته من توابع وغيرها مما لم يلتفت إليه أحد التفاتا جاداً من آلاف السنين!
وبعد وفاة الخلفاء الأربعة الراشدين خلفاء محمد خاتم النبيين ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ تلاحم ملوك من المسلمين إلى يومنا هذا بألقاب متعددة.. منها ـــ بعد الخلافة الراشدة ـــ الأمويون ثم العباسيون ومن تلاهم من أنواع الحكـام حتى اليوم، فى بقاع الإسلام التى امتدت فى غرب وشرق وجنوب أوروبا.. فالمسلمون الآن قد يقاربون المليارين فى بقاع الأرض من الناس يدينون بإسلام ملكى أكثر بكثير جدا من أى إسلام غيره.
ترى بعينيك ذلك فيما حول ألوان المسلمين من العبادات والمساجد والأعياد والمقابر والأضرحة والخواتيم والذكريات والمستويات والصدقات والنذور.. ومع ذلك الطول وذلك العرض، يبدو أن ذلك لدى العاقل بعيد عن السداد الدائم وعن النجاح المطرد، وبعيد عن الاقتراب بالزيادة فى التعمق والمعرفة الممكنة جيلا بعد جيل.
ومع عدم الالتفات وكثرة الإغراق فى التشبث حتى الآن بالتصورات والمقولات والمصدقات وترديدها كما كانت من قديم الزمان لدى عقول الماضين بقدر ما صدقوا وعرفوا قبل أن يفارقوا دنياهم وبقدر ما استقر فى عقول الموجودين اليوم والغد بتشبثهم وجمودهم فى سوء الحال وقلة الاهتمام بالمآل والغضب الذى لا يكاد ينقطع من شدة الكره والضجر ومن الاندفاع هنا وهناك بقليل أو بكثافة!!
إذ لا يوجد فى مجتمعات اليوم والغد دول وإمارات أو تكوينات كبيرة أو صغيرة متقدمة وغير متقدمة، لا يوجد فى هذه أو تلك أمانة حقيقية غالبة متصلبة أو انضباط حقيقى صادق فعال واع.
إنما يوجد ما لا حصر له ولا لأول ولا آخر من أسباب ووسائل وألوان وحيل واضحة ومختفية متشابكة ومتداخلة بين الحكومات بتركيباتها الشديدة المرونة الكثيرة المغالاة والأخطاء والأخطار وبين الاتجار العريض بسلاطينه وأوساطه وصغاره.. بمكره الذى يسميه حذقه وبين الزراعة والصناعة والنقل ودور السياحة والملاحة والطيران.
وهى فى مجموعها لاتقل حذقًا عن التجارة فى مكرها وبين الجيش والبحرية والطيران.. وهذه هيئات أهم وأعم من هيئات الشرطة والسلطان تتوخيان أولا وأخيراً نصيبهما فى القوة المحلية وسعة الرزق.. ولم يوجد فى القرون الشمسية الأربعة الأخيرة فى غالبيتها الغالبة إلا تزايد الغالبية فى ماديتهم وخبثهم وأنانيتهم ـــ جيلا بعد جيلا وطبقة بعد طبقة حتى اليوم والغد.
إذ انصرف جل البشر هنا وهناك صغاراً وكباراً تدرجا واتساعا وانتهاء إلى دنياهم كل على مقدرته.. فتضاءلت الديانة بل اختفت جديتها تماما ولم يبق منها إلا حركات وأصوات وتجمعات وأحاديث وأقاويل وأوقات معينة زائفة تغشاها العامة وأحيانا الخاصة فى مساجد ومعابد وأنصاب وتوابيت ومزارات ومواعيد واجتماعات ووفود يصحبها تلاوات أو مقولات أو بيانات عامة بتعاليم مكررة وقليلة الجدوى، وأعياد ومواسم وتقديسات وحجّات، قيمتها الكلية بنظرهم فى عودة أولئك الزائرين إلى أوطانهم وإعلان زياراتهم وتيههم وتفوقهم بها دينيا على من لم يسبقوهم فى تلك الزيارات المالية المكلفة.. حتى ولو كان المفاخر ممن اعتادوا التجارة وفوائدها إلى جانب اعتيادهم هذه الزيارات وتوابعها المجزية!
www. ragai2009.com
[email protected]