إننا نكون على الجادة دائما طالما احترمنا بإخلاص وتواضع ما أتيح لنا من العقل والفهم والعمل أفرادًا وجماعات فى نطاق مقدار ما منحنا من الملكات والمواهب لا نجاوزه إلى ما يفوق بالحتم طاقاتنا وامكاناتنا لأننا عندئذ لا نخلو من المجازفة والادعاء على غير أساس!
وعلومنا الرفيعة الحاضرة الباهرة بمستقبلها المشرق ستظل دائما علوم بشر مخلوقين فانين موسومة بتلك السمة الدائمة التى يرادفها تغلغل الاحتمالات فى سائر نواحى حياتنا كبشر.. وهو واقع ملازم لوجودنا لا فكاك لنا منه. يزيد فيه انحصار ميدان حواسنا فى مساحة ما تحسه وتشعر به مما حولها من الوجود وضآلة ما تقدمه من ذلك لوعينا وذاكرتنا وخيالنا.
فنحن جميعًا حتى يومنا هذا نسىء النظر والحكم على الكون الهائل، ولا نبالى إلا بالمحدود المحسوس وما تعلق به من اهتماماتنا وأغراضنا الصغيرة جدا أمام العين والعقل لو التفتنا إلى سعة الكون وعظمته. فنحن حتى الآن عبيد هذه الأرض أحياء وأمواتا، ووجود ما عداها هو وجود هامشى لا يكاد يعنينا بما فى ذلك الكون الهائل!
وهذه النسبية المستحكمة قديمة قدم النوع البشرى وجماعاته فى جميع عصوره وعهوده.. ماثلة فى تواريخهم وحضاراتهم وعقائدهم ونظمهم وأعرافهم وأصولهم وأخلاقهم وآدابهم وفنونهم حتى اليوم. كل ما معنا وما عندنا وفينا غارق فى عبودية الأرض.. ومن هذا الغرق التام العام كان ومازال اختلاف المفاهيم والآراء والإرادات لدى كل آدمى فى كل مجتمع، اختلافاً إن اختفى حينا بالنسبة لرأى أو فكرة أو غرض، فإنه يستحيل تحقيقه أو إسكاته أو تهدئته بالنسبة لعموم الآراء والأفكار والأغراض فضلا عن محوه.. ذلك لأن محدودية فرص بقاء الحياة على الأرض استدعت دوام الكفاح بين الأحياء من أجل هذا البقاء، بشرًا كانوا أو غير بشر.
علما بأن معظم أفعال الآدميين عمدية أو غير عمدية ممزوجة بأفكارهم مرتبطة بها، ومعظم أفكارهم مرتبطة هى الأخرى بأفعالهم ومشاربهم المعتادة المألوفة لديهم. لا تنفصل الأفعال عن المشارب والمعتاد من الأفكار.. إذ هما وجهان لشىء واحد يستند أحدهما إلى الآخر ويعبر عنه بطريقته.. أما الأفكار التى يرددها الآدمى كلامًا فقط، علا بها صوته أو لم يعلُ التى لا تظهر آثارها فى سلوكه وتصرفاته، فهى أدنى إلى الأمانى والخيال منها إلى الواقع..
وهى لذلك سريعة التبدل والتغير والزوال باختلاف الأحوال والظروف.. لا يرى صاحبها فى تغييرها الجزئى أو الكلى أى عيب. ولذا يحرص قادة وزعماء الجماعات والطوائف على تقييد الأتباع والأنصار بأفعال وسلوكيات تضمن استمرار ولائهم للجماعة أو الطائفة.. وكلما توالت تلك الأفعال والسلوكيات وتنوعت زاد ذلك نماء الولاء للجماعة أو الطائفة عمقًا وتعصبًا، وقل الأمل فى إمكان إزالته بالحوار والمناقشة والإحساس بمشاركة الفكر للعمل والتصرف، أو العمل والتصرف للفكر!!
من الملاحظ أن الولاء والتعصب له يكاد يكون غريزيا لا يفطن إليه أغلب الناس ذكورًا وإنـاثًا صغارًا وكبارًا، ولذا نرى كثيرًا عدم جدوى الحجة الجلية الواضحة فى إقناع الخلق وفى حمله على تصحيح أفكاره ومواقفه غير المعقولة.. وهذا من أسباب بطء ما تم ويتم من تقويم عقول ونفوس وتصرفات وعادات ومعارف المجاميع البشرية..
وهو بطء يعجز التقدم العلمى التخصصى الحالى عن تغييره تغييرًا تامًا، بل ويعجز عن تعجيل هذا النوع من التقويم فى عقول وتصورات وتصرفات الخلق.. وهو ما زال يسمح بوجود ثغرات وفجوات واسعة فى علاقات سواد الناس بالعقول المتقدمة المستوعبة القادرة على حسن فهم الأمور العامة وحسابها.. ومن خلال تلك الثغرات والفجوات ينفذ حتى الآن لقلوب الشعوب وتصوراتهم وتصرفاتهم مئات بل ألوف الخبثاء الماكرين..
هؤلاء الذين يجيدون تصوير الخديعة والوهم ويختلسون بها ميل الجماهير ويسترقون تأييدهم لهم لتحقيق مآرب خاصة فقط وتعطيل مسيرة التقدم والتطور التى تؤدى إذا اطردت إلى انقراضهم!.. وما نشهده فى عالم اليوم من الاضطرابات والصراعات فى القلاقل هنا وهناك، شاهد على أثر وفاعلية وجود واستغلال تلك الثغرات والفجوات المفتوحة.. لم يفت الخبثاء والماكرين وجودها واستعدادها لتحريك العداوات وتضارب المصالح الوقتية ونشر إساءة الظنون والنوايا وسواد المستقبل والعاقبة بدلاً من التبشير بفجر الخير والمعرفة والأخوة الذى يسعى العلماء والعقلاء معهم إلى إفصاحه وإصباحه على كافة البشر.
وتلك الفترة غير المألوفة من حيث همجيتها وعشوائيتها فى زماننا، فيها ضراوة وجراءة شديدة الغرابة ونوبات ملل وسأم وتشاؤم ويأس شديدة العنف والضراوة منتشرة فى بلاد العالم.. وهى تعرض جرأة عنيدة عاتية فى التخريب والتدمير وسفك الدماء وقتل الأنفس بلا حساب ولا تمييز مع عدم المبالاة بالأعراض وكبار السن والأطفال واحتقار الإنسانية ومقوماتها وموازينها!
وهذه كلها أتت وتأتى عن طريق تلك الثغرات والفجوات التى تفصل بين عقول وتصورات الآدميين العاديين المنصرفين فى الأصل إلى كسب قوت يومهم، وبين عقول وتصرفات العقلاء من الحكام والزعماء وأهل العلم والمعرفة، وسهولة ويسر اندساس المغامرين والانتهازيين والخبثاء من تلك الثغرات والفجوات ليفوزوا هم بالوصول إلى قلوب وعواطف وميول الجماهير!! لتحريكها وتحويلها إلى حيث تشرد وتتوه عن الجادة الآمنة المأمونة، ولكى يصيب هؤلاء الانتهازيون ما ينشدونه من الكسب الحرام والمجد الزائف الزائل مع إشفاء الغليل الذى لا أصل حقيقيا له غير الحسد والشهوة والطمع والحقد.. مستغلين منتفعين بالتوكيد والامتزاج بين سلوك الجماهير وتصرفاتهم وبين أفكارهم ومقاصدهم التى لا يراجعونها قط.. وهو توكيد عزيز علاجه فى غير أوقات الرواج وسعة الأرزاق.
www. ragai2009.com
[email protected]