كان ظهور معالم التحضر البشرى واختفاؤها على الأرض إلى يومنا هذا محليا دائمًا.. إن اختفى التقدم فى جماعة ظهر فى أخرى لتبقى راية الجنس مرفوعة فى مكان ما حافظة لآماله يتجه نحوها فعلا أو قصدًا أو شوقًا أو خيالاً كل آدمى أيا كان موضعه وموقعه وحظه وإمكاناته. وإلى يومنا هذا لم يطبق اليأس الشامل على الأرض كلها ولم تدخل دنيانا بحذافيرها فى أعماقه ولم تطو راياتها ومغامراتها وأحلامها.. بل تمد الآن أعناقها بجسارة إلى الكون العظيم تحاول أن تأخذ منه المزيد ومزيد المزيد مما لا نظير له فى الأرض التى لم تعد واسعة كما كان الناس يعتقدون.
ولم تكسر شوكة جنسنا مصائب الحرب العالمية الأولى ولا كوارث الحرب العالمية الثانية وفواجعها ولا انهيار القمم والعمالقة والإمبراطوريات التى ظنت لسنين عديدة أنها تقاسمت فيما بينها هذه الأرض بمن فوقها وما تحتها.. ما زال رصيد الجنس البشرى من الحيوية والعزيمة والإرادة الغالبة المتغلبة هائلا برغم كثرة ما أضاعه وبدده فى الخيالات والحماقات والعداوات.
مما لو كان قد احتفظ به وصانه لكان حال الآدميين جميعا بعيدهم وقريبهم أفضل وآمن مما هم عليه الآن !.. ثم إن بدايات الأحياء بدايات من خاص إلى أعم ثم إلى عـام جنـس أو نوع أو فصيل تنتمى إليه الأفراد بالغريزة أو ما يشبهها.. تعارف هؤلاء الأفراد أو لم يتعارفوا.. يضبطهم ذلك العام بخصائصه السائدة المشتركة (فى أفراده) المادية منها وغير المادية !
قالوا إن النصف الأيمـن مـن مـخ الآدمى لا يشتغـل إلا بالأشكال والمجسمات حقيقية أو غير حقيقيـة وإن النصف الأيسر من المخ هو الذى يهتم بالمجـردات والعموميات والمعانى، وهو لذلك موطن اللغة والوعى والتعقل والمنطق والصواب وأضدادها وإن النصف الأيمن هو ميدان اللا وعى أو العقل غير الواعى وكل ما يتعلق به من الميول والعواطف بما فى ذلك الأحلام والأوهام وما نسميه بالفنون.. وبين النصفين اتصال مادى وتبادل خدمات وتداخلات يسهل تتبع بعضها على الوعى والفهم، ويستعصى ذلك فى بعضها الآخر.. وهذا هو سر الغموض الذى نشعر به وعجز الفهم عن تفسير عواطفنا وأحلامنا وأوهامنا سواء ما نصفها بوصف الصحة والطبيعة أو بوصـف المرض أو الخلل!
وهذه المقولة لم يعرفها القدماء.. فهم لم يعرفوا وظائف المخ كما يعرفها العلماء الآن، إذ كانوا قليلى الاهتمام بالحواس فكريا وبالتعمق فى معرفة وظائف أعضاء الكائن الحى وخاصة أعضاء جسم الآدمى، وقد أسندوا مركز التعقل لديه تارة إلى قلبه وتارة إلى كبده ربطا منهم للعقل بأهم جزء فى نظرهم من أجزاء الجسم لاستمرار الحياة. وقد استمرت هذه الحال غالبة إلى القرن التاسع عشر حين تحولت المعرفة العلمية إلى التمسك الشديد بالفهم الموضوعى للظواهر الطبيعية حيثما كانت نتيجة للاحتكام دائما لما يقع تحت حواس الآدمى سواء فى مرحلة الفرض أو التجربة أو النظرية أو القاعدة مع توافر المراجعة التى لا تنقطع للتأكد من صحة كل مرحلة من هذه السلسلة!
ولا تزال الغالبية الغالبة من البشر فى أكثر أوقاتها ومعظم مساعيها تعيش فى ذلك الإطار القديم لطول الاعتياد عليه وامتزاجه بالمصدقات والعقائد وأوضاع الحياة الفردية والاجتماعية فى كافة مراحلها تقريبا.. حدث ذلك ويحدث كنتيجة تكاد تكون حتمية لتوالى حياة الحى من بدايتها إلى نهايتها، بغير انقطاع فى عمليات رتيبة، من الإدخال والإخراج والامتصاص والإفراز والإيجاب والسلب والصحو والنوم والنمو والذبول والشبع والجوع والارتواء والعطش والزيادة والنقص والحاضر والماضى والوجود والعدم..
هذا التوالى الذى يصدم ويلفت وعى كل آدمى إلى أغواره، يغريه بتصور أن دنياه حقيقة واحدة أولى يبدو منها وجهان دائما التوالى والتبادل كحقيقة لا غنى عنها فى كل حى من لحظة وجوده إلى أن يزول.. حقيقة تختلف عن التراخى المتباعد الذى نلاحظه فى الجدة والقدم والتكون والِبلَى لدى الكائنات غير الحية من الأجرام الهائلة إلى الذرات والنويات والموجات.. ومن الطاقات التى تحرك السدم والنجوم والكواكب إلى ما لا حد لضآلته من الومضات والنبضات !
وأوسع ما لدى الأحياء وبخاصة الآدميين من الاستعدادات انتشاراً واستعمالاً فى كل أدوار ومراحل العمر طالَ أو قصر، ما هو إلاَّ الاعتياد أى اعتماد الحى على العادات التى بموجبها تتحول الأنشطة القصدية أو العفوية غير المسبوقة، تتحول بالتكرار إلى مسلك يكاد يكون آلياً خاليا من معاناة العزم والتركيز وشحذ الإرادة قدر المستطاع وتكلف توجيهها إلى مقصود معين، تكلفا تسمح به الإمكانات الموجودة القابلة للاستعمال. وعلى أكتاف ذاك الاعتياد الملازم لكل حى، قامت وتقوم حياتنا وحياة كل حى إلى نهاية الأجل المقرر لها بلا استثناء.
وفضائلنا ورذائلنا وغزارة وضحالة فهمنا ومعارفنا وأشتات تفكيرنا وانحرافه وجميع ما لدينا مما يوصف بالخير والشر، يدين بالوجود لذلك الاعتياد.. تقوم به العادات التى نشعر ببعضها ولا نفطن لوجود أكثرها، لامتزاجها التام بمسيرة كل لحظة من لحظات حياة كل منا. وجميع الأنماط آدمية أو غير آدمية عادات.. حتى التنفس والنوم والرضاء والسخط والفرح والحزن والنشاط والكسل والمعرفة والجهل والذكاء والغباء والقراءة والكتابة والنطق والحركة والخيال والذاكرة وما فى حكمها.
فالاعتياد هو المحور الذى تدور عليه وبه الحياة بكافة صورها، واعيا هذا الاعتياد أو غير واعٍ، وبدونه لا توجد الحياة كما نشهدها فى أنفسنا وفيما نعرفه من الأحياء.
www. ragai2009.com
[email protected]