من تراب الطريق (745)

من تراب الطريق (745)
رجائى عطية

رجائى عطية

2:30 ص, الأثنين, 2 ديسمبر 19

تقلص باطراد لم ينقطع اقتدار البشر على الصبر، وزاد الضيق مع الكثافة الهائلة المتزايدة باستمرار من الآدميين فى كل مكان تقريبا على الأرض، فحلت سطوة وقوة القليلين غير العاقلة محل إهمال الخاملين الذين ملأ عددهم أركان الأرض.. بفقرهم وجهلهم ومرضهم وسخطهم وعداوتهم التى لا تهدأ.. وقد انتشر جدا فى الزمن الحالى، نقل أخبار الأرض بثا من مصادرها إلى مسارات جوية دائمة الحركة ــ توزع لكل قادر على الاستقبال وهو على الأرض بآلته أو جهازه فى سكن أو فندق أو محطة أو ميناء أو سفينة أو طائرة.. قد تسليه ولكن لا تهديه هداية العارف القادر المستعد لغده.. فخيال هذه الخدمة فيه من الألعوبة أكثر مما فيه من الاستفادة والرشاد والتقدم الجاد الحقيقى.. إذ السرعة المتتابعة التى لا يكف تتابعها ليل نهار، لا تبنى واقعا ولا تعيه، وإنما تعرض فقط احتمالا يصح أو لا يصح.. وما أكثر عدم صحته وأرخص وأصغر وأضيق وأبعد جدواه وأقل نسبة الحقيقى فيه، لأنه ملوث بالخلل والدجل ما عاش !، ويجب لإجلال العقل وتقديسه، أن يحل آخر كل خمس سنوات على الأكثر، محل كل رئيس سياسى أو قائد عسكرى.. كى تتوالى المراتب والأنواع فى العقول والأزمنة المستجدة على الدوام.. لأن الأزمنة الطويلة التى انقضت فى الماضى قد تراجعت فى الأزمنة أو لا فائدة بعدها فى بقاء العواطف وأعمارها!

وعدم الالتفات إلى ضرورة تغيير الأفكار وأزمنتها وتراجعها باستمرار إلى ماض طال بغير انتقال يحرك العقل ويزيد فى عمق الفهم عدم الالتفات إلى هذا جمود وتصلب وتيبس واستمرار تكرار لا يتغير كتقليد الابن لأبيه ما عاش هو.. وبهذا ومثله ينسى الآدمى كل آدمى أنه لا يولد لماض قط بل دائما يولد لمستقبل غائب منتظر.. لكن لأن كل مولود يولد غالبا فى أسرة تتبعه وتتعقبه وتستخدمه صغيرًا وكبيرًا على درجات فى نفس الجو العائلى المتدرج ضيقا أو سعة، يتصور الآدمى أنه على أى الأحوال المعتادة بين أهله وعوائدها التى قد يتخفف منها لكن لا يمحوها محوا وقد يفارق البعض أهله مبتعدا بطول ابتعاده إلى حد النسيان الكلى أو الغالب، فيتسرب اعتياده لاعتياد من عاشرهم فى محيطه. وكل هذه العادات برغم اختلاف أجزائهـا تغطى الكثير الكثير من مولد كل مستقبل حى لولده ثم يتراجع كثيرا عنه فى أشياء كثيرة كلما عاش: من الطفولة إلى الممات.. فكل آدمى يتحول حتما فى حياته الأولى من جديد صرف لامع، إلى قديم ماض تبعا للعشرة بعامة، أما عشرة العائلة أو عشرة النسب أو طول الجوار أو قدم الصداقة فشىء آخر. وقلما يخرج الآدمى عن هذا التصنيف، لأنه آليا لا يفارق انغماسه واتصاله بمن يلازمه معنويا أو ماديا.. فلم يتجاوز أى آدمى من أى جيل سطحية جيله قط.. وهذا واضح أتم الوضوح إلى اليوم والغد، خاصة الآن.. حيث يملأ دنيانا فى كل مكان وكل لغة ما لا أول له ولا آخر من المكتوب والمقروء والمطبوع، فى الدين والعلم والأدب والفن والعلم بفروع كل منها التى باتت الآن تنعش كل ما تتصوره أغراض البشر مطبوعة ومكتوبة ومرددة فى موضوعات العلم والفن والصناعة والزراعة والعمل والجدل والخلاف والمناقشة والاعتراض والاستعداد والإنكار والتعريض والبطلان والتحريم، دون أن يصادف اعتراضا جديدا للتغيير والتعديل أو يصادف قديما يستنكر جديدا يمقته.. لأنه لا يفكر فى صحته أو بطلانه، لأن كثرة الآدميين كلما حدثت أضعفت تآخيهم وكلما زادت زاد اختلافهم وتباعد بعضهم عن بعض حتى مع الأخوة. وذلك فيما يبدو ـ لأن الأرض واحدة ـ لا يوجد للآدمى غيرها حتى الآن، ولكن إذا قدر له إضافة وسعة ومزيد من المجالات والعمل والكسب فى أمكنة أخرى غير الأرض، تغيرت أحـوال أرضنا، تغيرًا كليًا، وتغير معها ما نحن عليه اليوم والغد من اختلاف المواقع والسحن والتواريخ والإثراء والفقر والجرأة والاستسلام واليقظة والخمول والصدق والخبث.. واشتد وقوى الأمان والإيمان اللذان يزدريهما الآن الطمع أو الجشع.. حتى بات اليوم علنا وعلما لأنانية كل حىّ.. بـلا تمــييز بين ما يسمونه أحيانا بالموهبة والجرأة، وما يسمونه أحيانا أخر بالجبلة والجهالة أو الخطف الذى يخسر أكثر مما يربح جهده الزائف !

● ● ●

لا يوجد الآن على هذه الأرض بما حملت، عاقل يبغى معقولا إذا كان لا يبدأ ولا ينتهى قط إلا بأمانه المادى المحقق على نفسه ومن هم فى حكم نفسه أولا وآخرًا.. إذ لا يوجد اليوم على الأرض عاقل قد وهب نفسه ومن هـم فى حكم نفسه، كل شىء مادى بدون حساب لمن يهتم بحمايته لوجه الله. فقد انتهت تلك الفضيلة بانتهاء المخلصين لها من زمان طويل انقضى عهده.. إذ انصرف البشر من أكثر من خمسة قرون عن تلك الفضيلة التى نسيها البشر بعامة حتى بتنا الآن نحاول ما لا نستطيع محاولته فى بقاء العقل وحده دون الأنا ومن فى حكم الأنا !

فلم يبق فى قدرة البشر إلاّ أن نحاول الإغاثة أو الاستطاعة من غير الأرض التى لا تكاد تعطينا ما يكفينا ولم تعد تحملنا إلاّ بصعوبات تشير إلى كوارث !

وقد اندفع الناس منذ الحرب العالمية الأولى 1914 إلى 1918 وما بعدها، ثم زادوا فى الاندفاع فى الحرب العالمية الثانية فى (1939 – 1945) ـ ابتعادا كليا عن التعامل بالذهب والفضة اللذين كان يجرى بهما التعامل من قديم القديم، واندفعوا إلى التعامل بالورق وحده، وتصوروا ـــ حالمين ـــ أنهم انطلقوا إلى الأبد من قيدهم بتحكم ذينك المعدنين فى التعامل كله، فانطلق الورق (المالى) فى التضخم ثم فى التورم إلى أرقام وأبعاد هائلة يتلاطم بها البشر الآن بأوهام وأحلام معتمدين على أوراق كثيرة الأنواع والألوان ظاهرها الترتيب والنظام والتدرج من أسفل إلى أعلى والإيداع والإضافة والسحب والائتمان والأخذ والتغطية، وباطنها الفعلى عكس ذلك فى الوزارات والإدارات والخزائن والبنوك والشركات وفروع هذه ومكاتبها، ثم فى احتفائها بالبيانات الفخمة الواسعة فى الصحف والمجلات والإعلانات، ثم فى نشر الخلاصات السنوية المرتبة الموجزة بما لها وما عليها ـ فى نظر وحرص واضعيها ـ لطمأنة الجمهور الذى لا يدرى جله حَقّه من باطله !!

[email protected]

www. ragai2009.com