يستحق محمد كريم لقب الفارس، مع أنه لم يكن من رجال الحرب والضرب، ولا من رجال السيف والنزال، ولكن لشجاعته وفروسيته حتى الموت، فى نضالٍ بطولى ومقاومة ثائرة صامدة لدفع الحملة الفرنسية عن دخول مصر، ثم لرفع غمتها عن البلاد.
بدأ هذا الفارس النبيل حياته قَبَّانيًّا ـ أى وزَّانًا ـ حيث مولده ونشأته بالإسكندرية، وترقى إلى أن تولى أمر الديوان والجمارك بالثغر السكندرى، ثم عينه مراد بك حاكمًا للإسكندرية.
ولأن المعادن النفيسة تظهر فى الأزمات والنوازل والملمات، فإن محمد كريم انتفض يدافع عن وطنه، وسارع بتحصين «قلعة قايتباى» لصد الأسطول الفرنسى القادم بقيادة نابليون، وبدأ فورًا فى العمل مع الصيادين والعمال فوق حصون الإسكندرية لتجهيزها لصد المغيرين، وتقدم المدافعين من فوق القلعة ليرد الفرنسيين عن وطنه، وظل مع رجاله يتلقون النيران، ولم يستسلم عندما دكت المدفعية الثقيلة حصون الإسكندرية، وأذكى روح المقاومة الشعبية، وخاض معركة أخرى لمقاومة زحف الفرنسيين إلى الداخل، فلما ظهر الفرنسيون فى المعركة، اعتقلوه وحملوه إلى نابليون الذى حاول فى البداية إغراءه واستمالته واكتسابه إلى جانبه، فأطلق سراحه ورد إليه سيفه.
بيد أن محمد كريم لم يهدأ ولم يستنم، وطفق ينظم المقاومة السرية، وعاد إلى تغذية الثورة والمقاومة الشعبية ضد الفرنسيين بكل قوة، ولجأ إلى الصحراء يرتب ويجمع المجاهدين لضمهم لصفوف المقاومة، وتزعم هذه الحركة الثائرة الواسعة، فاتهمته القيادة الفرنسية بخيانة الجمهورية، وكأنه مكلف بالإخلاص للجمهورية الفرنسية التى تغزو بلاده بغير حق !
واتهمه الجنرال كليبر بأنه صاحب اليد فى المقاومة التى لقيتها كتيبة الجنرال ديبوى، وبأنه يثير الثورة والهياج والعصيان فى نفوس الأهالى ضد الحملة الفرنسية، ونقلوه إلى البارجة «أوريان» لحين ترحيله إلى نابليون بالقاهرة، ومن البجاحة أن يجمع كليبر أعيان الإسكندرية ويبرر لهم اعتقال محمد كريم بأنه بسبب «عدم إخلاصه» للجمهورية الفرنسية، ويصدر نابليون أمرًا فى ذات اليوم إلى جميع الأهالى بتسليم أسلحتهم ويأمر باعتقال كل من بقى فى منزل محمد كريم وأن يختم على داره وأملاكه، ويقول فى كتابٍ أرسله إلى الأميرال برويس إنه قد تحقق لديه «خيانة كريم»، ويكلف بتهديد خدمه ليبوحوا بما لديهم من أسرار، ويأمر بأنه إن لم يدفع كريم ثلاثمائة ألف فرنك خلال ثمانية أيام يبقى معتقلاً على ظهر البارجة، وإذا لم يدفع على الأقل ثلث هذا المبلغ المفروض عليه فى خلال خمسة أيام فعلى الجنرال كليبر أن يأمر بقتله رميًا بالرصاص.
على أن رسالة نابليون لم تصل لا لبرويس ولا كليبر ـ لأن حاملها الكابتن جوليان قتل فى الطريق، وقام الأميرال برويس بترحيل محمد كريم فى 30 يوليو إلى رشيد، التى استقبلته بحفاوة بالغة أقضت مضجع الجنرال مينو، فأرسله مقبوضًا عليه على متن سفينة بنهر النيل إلى القاهرة.
وفى 5 سبتمبر أصدر نابليون أمرًا بإعدام محمد كريم رميًا بالرصاص، ومصادرة أملاكه وأمواله، وفرض فدية ثلاثين ألف ريال، يجب أن يدفعها فى أربع وعشرين ساعة لإنقاذ حياته، وإلاَّ ينفذ الحكم بإعدامه.
وفى رواية أوردها الرافعى فى تاريخه، موثقة بشهود عيان مـن الفرنسييـن الذين لا مصلحة لهم فى «تجميل» صورة محمد كريم، وهى غير رواية مرجوحة أوردها الجبرتى الذى لم يكن شاهد عيان للأحداث ـ فإن المستشرق فانتور Venture كبير مترجمى الحملة الفرنسية، نصح محمد كريم بأن يفتدى نفسه بدفع المبلغ، بيد أن الفارس يجيبه ثابت الجأش : «إذا كان مقدورًا علىَّ أن أموت فلن يعصمنى من الموت أن أدفع هذا المبلغ، وإن كان مقدورًا لى الحياة فعلام أدفعه»
فى 6 سبتمبر 1798 نُفِّذ الإعدام فى هذا الوطنى الفارس النبيل بميدان الرميلة بالقلعة رميًا بالرصاص، وبعد نيف ومائة خمسين عامًا كرمته مصر، ووضعت اسمه وصورته سنة 1953 فى قائمة محافظى الثغر السكندرى، وأطلق اسمه على المسجد الواقع الآن بجوار رأس التين، يؤمه المصلون كل يوم، فيتذاكرون هذا الفارس النبيل الذى ظل بطلاً حتى الموت !