مع بلاء الأنانية التى تفشت، لم يعد عموم الخلق يثق بعضهم فى بعض.. الكل بلا تمييز ــ يبدأ وينتهى دائمًا بالأنا ــ أى بذاته ــ فى كل ما هو مهم أو يظن أنه مهم له ولأهله ولمن يهمه أمرهم.
شاعت قلة الثقة، وعوامل النزاع والخصام والصراع، فى العالم الحالى المغرق فى أنانيته. لم يعد أحدٌ يثق فى غيره ولا حتى فى نفسه ـ ثقة الآمن العارف القديم، ولا ثقة الساذج المطمئن لغيره منذ أن يولد إلى أن يموت.
ذهب الشعور بالأمن إن لم يكن قد ضاع نهائيًا، ولم نعد نفكر تفكيرًا جادًا فى استرجاعه!
وصرنا من سنوات نتظاهر فقط بالعمل ولا نعمل، ونتظاهر فى المنزل وفى الزيارات، وفى الافراح والأحزان، وفى الابتهاج والانزعاج، وفى المسالمة ونقيضها، وفى العيادة وعكسها.
جميع ذلك ومثله ؛ بات سطحيًا محضًا، نادر الاستقرار وندر جدًا من يبالى بالثبات على الصدق والاخلاص والمروءة، ولم يكن ذلك نادرًا فيما مضى.
الصحافة الآن قد تعددت وانتشرت أنواعها وألوانها الهائلة المطبوعة وغير المطبوعة التى لم يسبق لها من قبل مثيل فى الحركة والسرعة والحجم، لكنها باتت بعيدة عن الإخلاص اكتفاء بالجرأة والسعة والانتشار المتعدد مع قلة المبالاة بالصدق والأمانة فى نوع النشر والإذاعة فى العالم كله.. إذ لم يعد يهم البشر الآن إلا فقط معنى الساعة إن لم يكن معنى اللحظة.. بغض النظر عما مضى إذا كان قد انقضى.. فالبشر الحالى بشر ما هو عليه فى يومه لا ما هو عليه فى أمسه أو غده.. فليس له عقيدة أو مذهب اتبعه ويتبعه وسيتبعه ما عاش حتى إن زاد نصيبه منه فى مستقبله كما لم يكن يراه فى ماضيه أو حاضره.. فلم يعد الناس الآن يحسبون يومهم جزءا من ماضى كل منهم وفى مستقبله فى وجوده فى الدنيا.. بل بات «كل يوم» هو كل وجوده عنده.. لا يبالى بسابقه أو تاليه زهداً فيما قد كان وذهب، ويأسا مما يمكن أن يجىء بسوء أو بما هو أنكى.. والغنى حاكما أو غير حاكم مشغول فى يقظته ونومه لأنه دائما قلق على غده إن لم يسبقه يومه.. وهو نادر الراحة من شدة القلق والمخاوف التى تجىء حسابا أو فجأة لتقلب الأمل غما وهما بسرعة شديدة فى هذا الزمن العجيب غير المسبوق الذى لا يعرف فيه موسر أو معسر، راحة مستقرة وطمأنينة كما عرف الناس قبلنا!
فنحن فى زمن شديد الغرابة كثير التغير قليل الثقة باهت كالح مدع مع سيولة ازدحام الألوان وضآلة النواتج والآثار، وقد حل محله نظير مستجد يتكرر بديله باستمرار ويتكرر غموضه إلى أن ينعدم أصلا وفصلا.. حاضروه لا يبالون بمن قد يأتون بعدهم على عكس ما اعتاد أن يتوقعه السابقون!!.. لأن أولئك الماضين كانوا ـ برغم ضعف إيمانهم ـ على درجة ما بالرجاء فى لطف الآخرة!
وإلى وقت قريب أو شبه قريب، كان معظم الآدميين متمسكا بذلك الرجاء الموجه إلى المولى عز وجل بغير تدقيق لكن بنوع من الصدق أو نوع من الأمل.. لكن فى أيامنا هذه، هبط ذلك الرجاء هبوطًا عامًا شديدًا فى عالمنا البشرى على أرضنا كلها.. فلم يعد معظم الناس يلتفت من ميلاده إلـى مثواه، إلاَّ إلى خارجه فى يقظته ونومه.. وضاقت أرضنا على ما وسعت من ضيق الخير مع الشر وقصر الحق مع الباطل، وصراع الطمع القصير الأمد بالحذر أو الاقتصاد غير الفاهم أو الواعى أو المفكر أو البصير!
www. ragai2009.com