كثيرًا ما نخلط فى دعاوينا بين نطاق الوعى وهو فى جميع الأحوال مطلوب، وبين مواجهة الجنوح. الجنوح لا يواجه بإيقاظ الوعى، إيقاظ الوعى يتجه أساسًا إلى الأسوياء والبعيدين عن الأغراض الملبوسة للذات، يحفزهم مثلاً على احترام الآثار ومياه النيل، ورعاية سبل المواصلات والاتصالات، والاقتصاد فى استهلاك المياه إزاء ما نعانيه من شح مائى صار مهددًا بالتفاقم، بيد أن الجنوح والجانحين لا أثر لإيقاظ الوعى فيهم.. هم وراء أغراضهم ومآربهم وجنوحهم.. سارق كابلات الاتصالات غير معنى بداهة بأهمية الاتصالات ولا يعنيه إلاَّ الوصول إلى بغيته، وسارق الكابلات الكهربائية غير معنى بأهمية الكهرباء وإن كان يستخدمها، فهو لا يربط بين ما يستفيده شخصيًّا من الكهرباء، وبين الأضرار العامة التى تلحق بهذا المرفق الحيوى من جراء سرقة كابلاته أو تدمير أبراجه، المرافق العامة والممتلكات العامة تعنى العامة من الأسوياء، ولكنها لا تعنى اللصوص الذين يتربحون من سرقة الآثار وتهريبها والمتاجرة فيها، والذين يسرقون التيار الكهربائى للتخفف من نفقاته، كذلك من يتلفون ويسرقون لافتات الطرق وقضبان السكك الحديدية لبيعها فى سوق الخردة وبأبخس الأثمان !
للوعى ولإيقاظة وإثرائه نطاق !
ولمقاومة الجريمة والجنوح نطاق ووسائل مختلفة تمامًا، تستهدف منع ارتكاب الجرائم وملاحقة ومعاقبة مقارفيها، ومراقبة وتتبع أوكار الإجرام والجانحين، وتقليم وسائلهم، وتجفيف الجنوح بقوة القانون وسيفه، لا ببث الوعى وإيقاظه.. فهؤلاء الجانحون بعيدون كل البعد عن هذا الوعى، لأنهم بعيدون أصلاً عن الحس الوطنى، وعن الإحساس بالانتماء إلى المجتمع الذى يتعيشون على سرقته ونهبه !
والمتاجر بوظيفته لا يختلف عن هؤلاء، فغايته الإثراء بالرشوة والمال الحرام بالمتاجرة بوظيفته وبنفوذه، والتربح بما يتحكم فيه من أعمال ومشروعات، وبما يتحكم فيه من خدمات، وبما عليه أن يؤديه نيابة عن وظيفته إلى المستحقين من مستحقات، وبما يتوجب عليه أن يحفظه من الأموال العامة المؤتمن عليها، فذلك الجانح يعلم أهمية المال العام وحقوق الشعب فيه، ولكن اليد التى تمتد لاختلاسه أو الاستيلاء عليه أو استعماله فى غير وجهه، يدٌ اعتادت الحرام، لأنه لا ضمير يوجهها أو يقوّم سلوكها.. ما يهمها هو إسكات هذا الضمير والتبرير له ! وأمثال هؤلاء لا يستمعون لنداءات الوعى بل ويسكتون نداءات الضمير، وكل همهم هو التخفى بجرائمهم !
من المألوف أن يلجأ أمثال هؤلاء لإقامة درقة من حولهم، باصطناع البر والمعروف، وبمظاهر الزهد والاستغناء، وبإقامة العلاقات الخفية التى تحسن تقديمهم وتزييف صورتهم على الناس !
إيقاظ الوعى لازم ومهم ومطلوب.
ولكن مقاومة الجريمة والجنوح تحتاج إلى قوة وسيف القانون !
شأن الجريمة هنا، كشأن العنف والإرهاب.. لا يقاوم بالوعظ والإرشاد، وإنما بقوة السلاح.
هذا ما نادى به السياسى الأريب ونستون تشرشل، إبان الحرب العالمية الثانية، حينما تعرضت اليونان المستخلصة من النازى، لموجات من العنف وأعمال العصابات، فلم يتردد السياسى الأريب فى إعلان مدينة أثينا «منطقة عسكرية»، وقرر «نزع سلاح» الجماعات والقوات الأخرى، ووجه نائبه هناك رسالة إلى الشعب اليونانى أكد فيها وقوفه بإصرار إلى جانب «الحكومة الدستورية»، فلما اندلعت مظاهرات «ممنوعة» وبدأت نذر حرب أهلية، قرر ونستون تشرشل أن يتولى بنفسه الإشراف على الأمور، وحينما هاجم الشيوعيون مراكز الشرطة فى أثينا، وذبحوا معظم من فيها من رجال، واجه هذا الشغب بقوة السلاح، ولم يتردد فى «إطلاق النار» على المعتدين، وقال قولته المشهورة فى التاريخ : «العنف لا يمكن أن يقابل إلاّ بالسلاح».
كذلك الجريمة ؛ لا يمكن أن تقاوم إلاّ بقوة وسيف القانون .
www. ragai2009.com