كواحد كتب وقدم عددًا من السلاسل الوثائقية لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، أنا لا أدعى الحياد..لكن سلسلة الـBBC المنتجة هذا العام فى الذكرى الأربعين للثورة الإسلامية الشيعية فى إيران فى 1979، تستحق وقفة.
اسم السلسلة مهم، الكاتب اختار لها «سقوط الشاه»، والإشارة بالطبع الى محمد رضا بهلوى (والذى شاءت الظروف ان يواريه تراب مصر). السلسة كان يمكن أن تُسمى «صعود الإمام»، والإشارة كانت ستكون لآية الله الخمينى. وعلى كل حال، فإن كاتب السلسة اختار أن يُجسد الشخصيتين، لكن من بعيد، كمجرد محركين للأحداث، لكن بدون ان يُقدِم لنا (المستمعان) أفكارهما، مشاعرهما، وربما الأهم رؤيتهما لحركة التاريخ.
بطل السلسة هو الإنسان الإيرانى – حسب تصوير الـBBC له. الكاتب راعى إختلاف وجهات النظر، وتضارب المشاعر، فى مجتمع متعدد، عريق، وذى حضارة قديمة ومتصلة. وقد كان الاختيار أن تتمركز الأفكار والمشاعر والرؤى المختلفة حول شخصيات فى وسط المجتمع، لا تعبر عن طبقة معينة، أو عن توجة ثقافى معين (الإعجاب بالغرب مثلاً)، ولكن تعبر عن أوسع شرائح المجتمع الإيرانى فى تلك اللحظة.
هناك شخصيات قد تبدو لنا نمطية، لكنها مُعبرة ومهمة، خاصة وأن المتلقى مُستمع غربى: هناك الفتى الذى حوله التعذيب فى سجون الشاه إلى الراديكالية الدينية. هناك الفتاة الحالمة بمستقبل جميل والباعثة لشعر حافظ (عملاق الأدب الفارسى) بينما الرصاص يحصد أبرياء على الطرقات. هناك الرجل المسن الذى يحاول ربط التغيُرات الحادثة فى نهايات السبعينيات بتاريخ إيران فى القرن العشرين.
لكن هناك أيضاً شخصيات غير نمطية. مثلاً، الكاتب اختار السياسى العملى الذى يظن أنه يستطيع (كما نقول بالعامية المصرية) أن يركب الموجة ويستخدم الثورة الدينية لأهداف وتصورات أبعد ما تكون عن ما تُعبر عنه هذه الثورة. هناك أيضا الصحفية الغربية التى توضح كيف يمكن للغرب أن يخطئ فى فهم أحداث عظام – وبشكل متكرر.
لكن هناك أيضاً شخصيات خارج المألوف. السلسة اختارت طريقًا صعبًا عندما سلطت الضوء على شخصية الچنرال ناصرى (آخر رئيس للساڤاك، جهاز أمن الشاه) والرجل، من خلال مذكرات كثيرين وبالرغم من سوء سمعة الجهاز الذى قاده، له آراء تستحق التعمق. الصعوبة هنا كانت فى محاولة الغوص (سريعاً) فى رؤية رجل الأمن لفكرة النظام فى المجتمع ولفكرة أمن الدولة، واستعداده لمواجهة شعبه انطلاقًا من إيمانه بتلك النظرة العليا لفكرة الأمن والنظام، السلسلة أيضاً سلطت الضوء على فرح ديبا (زوجة الشاه وقد كانت ولا تزال صورة لفكرة معينة عن روح إيران …وتعبير عن كيف يمكن لتغيرات السياسة أن تتجسد فى مأساة عائلة).
لكن هناك غائبين فى هذه السلسلة. الأول هو الصراع داخل الثورة بين هؤلاء الذين حركوا الشارع، فى اللحظة الأولى من الانتفاضة ضد نظام الشاه، وبين الحركة الدينية التى تمركزت وتمثلت فى الإمام الخمينى. هذا الصراع كان جوهر حركة التاريخ فى إيران فى تلك اللحظة ولعلة أيضاً المفتاح الأهم لفهم التجربة الإيرانية فى الأربعين سنة الماضية.
الغائب الثانى هو الرعب. الثورة الإيرانية، والرغم من أى أيديولوجية ادعتها، فتحت الباب، ولو لحظة قصيرة من الزمن، لحملات قتل واعتقال، وتغيرات مهولة فى المجتمع الإيرانى. وقد كان فى قلب ذلك كله خوف.. خوف ليس فقط من الاتهامات والمحاكمات، ولكن أيضاً من تسلط فكرة واحدة على مجتمع متعدد وحكم هذه الفكرة بدعوى التفويض الإلهى.
نهاية السلسلة معروفة منذ بدايتها، فنحن، بالطبع، نعرف إلى ما سوف تتجه إيران بعد سقوط الشاه وصعود الإمام. لكن المثير كان فى معرفة الكلمات التى سيضعها كاتب السلسلة على ألسنة الشخصيات المختلفة، خاصة من يمثلون المجتمع الإيرانى، ذلك لأن هذه الكلمات، تعبر عن حكم الكاتب – حتى وإن كان مُغلفاً – على التجربة الإيرانية كلها فى الأربعين عامًا الماضية. واحتراما لمن سيقرر الاستماع للسلسلة، فأنا لن «أحرق» تلك الكلمات فى النهاية…لكن تبقى الفكرة الرئيسية هنا: وهى مراجعة الماضى، وبالذات اللحظات المفصلية فيه، ليس فقط من خلال رؤى سياسية بحتة، لكن من خلال فكر يجري ما بين التأريخ والتأويل.